كتب ـ يوسف العرادي: رصدت مبادرة «درايش» ضمن مشاركتها بمهرجان «تاء الشباب»، اللحظة الفجائية للإنسان داخل منزله، علاقته بمحيطه العمراني الضيق، تأثير التصاميم والأشكال الهندسية على تصرفاته، كيف ينام ويصحو ويفرح ويحزن ويطهو الطعام ويلتقط الصور؟ هل لكل ذلك علاقة بالفراغات المكانية داخل الجدران؟ أطلقت المبادرة ـ بغية توصيل فكرتها ـ معرضاً فنياً ومحاضرة حملت عنوان «إنسان أم معمار؟»، تناولت مجمل تأثيرات العمران على السلوك الإنساني سلباً كان أم إيجاباً. وأبدى مدير المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي د.منير بو شناقي لدى إطلاقه الفعالية، سعادته بالتجربة الثقافية الشبابية، مشيداً بمشروع تاء الشباب الذي يشتغل على مختلف المشاهد الثقافية ويهتم من بينها بالمعمار والتراث. وقال «سعيد بمثل هذه المباحث التي يشتغل عليها الشباب، وتتجه في تعاملاتها إلى العلاقة ما بين الإنسان والمعمار والتراث بشقيه الطبيعي والثقافي»، مضيفاً «هذه التجربة هي البداية فقط وليست نهاية الحدث، نبحث عن استمرارية مشروعات وموضوعات مماثلة تهتم بالأمكنة والنسيج الإنساني الحضاري». وافتتح بوشناقي معرض «بتصرف عن المكان»، ويلخص بلغة الرسم و«السكتشات» والتصاميم العلاقة ما بين الإنسان ومراحل المعمار، ورصد ردود أفعال أولية يتخذها الإنسان مقابل لحظة حدث فجائي. وأوضح القائم على المعرض عبدالرحمن سلامي، أن هذه التجربة ترصد تأثيرات العمارة على سلوكيات الإنسان، وتنسج سياقاً لنفسها بدءاً من خطوات التصميم المعماري ومقارنة تعامل المعماري والإنسان العادي مع كل مرحلة من مراحل التصميم. وقدم المعرض مقارنات بصرية ما بين حضارات وثقافات وديانات مختلفة سواء في طبيعة المهن، المواصلات، الطراز المعماري وحتى القهوة بشعبيتها قديماً وحديثاً، ورسومات ترصد تفاعل مختلف الفئات مع عنصر الماء في اللحظة الأولى. ومن التعامل البصري إلى الاشتغال الأكاديمي، قدمت مبادرة درايش بعد المعرض المعماري محاضرة «إنسان أم معمار؟»، انتقل من خلالها عميد كلية الهندسة بجامعة المملكة البروفيسور بلاتون إلكسيو إلى العلاقة ما بين الإنسان والمكان في محيط إقامته ومنزله، باعتباره الحدود الجغرافية والمكانية الأقرب إلى الإنسان، والأكثر انسجاماً مع طبيعته ونمط حياته. وبدأ إلكسيو محاضرته بطرح مجموعة أسئلة حول فكرة المكان والسلوك الإنساني، ودور العناصر المعمارية في إيجاد بيئة معاشة تؤثر وتتأثر بتفكير الناس ومشاعرهم وعاداتهم.وقال «كلنا نختبر المكان بطريقة أو بأخرى، شعورنا بالسعادة أو الحزن، بالجمال أو السوء، بالدهشة أو الملل جميعها ترتبط بمحيطنا المباشر.. إن المكان سيرة حياتنا، ومنه نستدرج تفكيرنا ونمارس تصرفاتنا». وأردف «هذا المبحث واسع وكبير لا يمكن تلخيصه، لكن فكرة الدخول إلى المنزل الذي هو فكرتنا المشتركة عن المكان، يكشف لنا بصورةٍ مبسطة مدى الاختلاف والتعامل المنفرد لكل إنسان داخل منزله». ولفت إلى أن السلوك الإنساني النابع من تفكير ومشاعر وثقافات الناس، يتأثر بالرغبات والأحلام والعواطف، إضافة إلى القاعدة المعرفية للشخص. واستعرض العديد من النماذج المدروسة والتعاملات البشرية مع المكان الخاص بهم، وعرج على ثقافات عديدة ومناطق بعيدة تتراوح في فترتها الزمنية. وأكد أن العديد من السلوكيات إما أن تكون وراثية مكتسبة أو ظاهرية ملحوظة نتيجة حدث أو ظاهرة ما، مشيراً إلى أن الدراسات المتخصصة لاستيعاب العلاقة ما بين الإنسان والمعمار، تتناول في اشتغالاتها ومعايناتها العديد من المناطق المعرفية والعلمية الاجتماعية، السيكولوجية، الأنثروبولوجية، وغيرها. وأوضح أن المعمار سواء كان سكنياً أو تجارياً أو غيرها من البناءات الوظيفية، جميعها تحدد موقع الإنسان فيها بمتوازيات عديدة تبدأ فردية وتتصاعد إلى المستويات العائلية، الجماعية، الفضاءات المفتوحة وانتهاءً بفكرة الحياة عموماً. وقال إن حواس الإنسان هي طريقة تفاعله واستيعابه للمكان بدون النظر إلى تفاصيل التكوين المعقد للمعمار، مضيفاً «اللون أياً كان موقعه في المنزل، النسبة والتناسب ما بين كتلة الإنسان والمكان، الإضاءة التي تحكم البيئة وقطع الديكور جميعها مجرد تفاصيل تتبادل علاقاتها ما بين الإنسان والمكون المكاني». وتساءل «ما هو التصميم الداخلي الملائم الذي يفسر حياة الآخرين داخل المكان؟ ما هو التفكير؟ كيف تنام؟ كيف تشعر وتتواصل؟ ما هو الأنسب لك؟ ماذا نريد أن نفعل؟ هذا الكم من الأسئلة كله يقود إلى علامات استفهام حول طبيعة العلاقة المتبادلة؟». واستعرض إلكسيو في شرحه العديد من الصور والمقارنات الزمانية والمكانية والعلاقة البشرية بها، بدءاً من الحضارة اليونانية القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد والعلاقة ما بين الفراغ المكاني والحياة الإنسانية داخل المكان، مروراً بهولندا، واليونان في مراحل الاستيطان التركي، الفايكنغ والمنازل ذات الغرف الأحادية والعالم العربي وغيرها. وشرح نماذج صورية للسلوكيات والعادات الإنسانية داخل المنزل، سواء في النوم، تناول الطعام، لحظة التقاط الصور، الرقص، طهو الطعام وغيرها من اللحظات المعيشية. وأشار إلى بعض التصاميم العبقرية والبسيطة قد تغير سلوك الإنسان داخل محيطه الخاص، وضرب مثالاً على ذلك «لو تم وضع سبورة داخل المنزل لاتجه الأطفال للرسم عليها بدل تشويه الجدران».وأضاف «كل اللحظات الإنسانية تحصل داخل هذا الإطار الضيق من الحيز المكاني، فكرة العنف ولحظات السعادة جميعها متوازيات محكومة بطبيعة المكان وعلاقتنا به، الإضافات الداخلية والرغبة في نمط معيشي معين تؤدي إلى تغيير التعامل مع المكان، والعكس يحدث».