كتب - أمين صالح:فيلم «الاحتقـــار» Le Mepris أو Contempt للمخرج الفرنسي جان لوك جودار مبني على رواية الكاتب الإيطالي الشهير ألبرتو مورافيا «شبح في الظهيرة».عن هذه الرواية يقول جودار «مجلة كاييه دو سينما»: «رواية مورافيا سوقية، مليئة بالوجدانية التقليدية، الكلاسيكية، على الرغم من حداثة الحالات.. وهي تصلح لأن تقرأ أثناء الرحلات بالقطار. لكن مع هذا النوع من الروايات يمكن للمخرج أن يحقق أفضل الأفلام. أنا ببساطة انجذبت إلى الثيمة الرئيسة، وأجريت تعديــلات قليلة على بعض التفاصيل، وفقاً لمبدأ أن الشيء المصور هو بشكل آلي مختلف عن الشيء المكتوب، بالتالي هو أصلي. لم تكن هناك حاجة لمحاولة جعله مختلفاً، لإعداده وتكييفه للشاشة. كل ما تعين علي عمله هو تصويره كما هو، تصوير ما كان مكتوباً، باستثناء تفاصيل قليلة».الفيلم هو عن تفسخ العلاقة الزوجية، في فترة زمنية لا تتجاوز اليومين من حياة زوجين فرنسيين يعيشان تجربة مدمرة، فيما العجز واليأس يطغى على تفكيرهما وسلوكهما. العلاقة بينهما تترنح ثم تتصدع وأخيراً تنهار، وذلك عبر سلسلة من الأحداث السريعة التي تدور في معظمها داخل شقة الزوجين غير المفروشة.الزوجان هما بول «ميشيل بيكولي» وهو كاتب مسرحي يعيش في روما، يكلفه منتج أمريكي مستبد «جاك بالانس» بأن يعالج أو ينقح نصاً سينمائياً مستمداً من أوديسة هوميروس، سوف يخرجه فريتز لانج «وهو مخرج ألماني شهير، هرب من ألمانيا النازية ليعيش ويعمل في أمريكا، وقد استعان به جودار ليؤدي دور المخرج». سلوك الكاتب وخضوعه لرغبات المنتج إلى حــد الإذلال يــؤدي بزوجتـه كاميل «بريجيت باردو»، ربة المنزل البورجوازية، الجميلة والمغرية والضجرة، إلى احتقاره واستفزازه. هــذا الموقــف تتخــذه علــى نحـو تدريجي، إذ تلاحظ في البداية نزوعه إلى تغليب مصلحته الفردية الخاصة ومنفعته الشخصية عبر التبعية المطلقة للمنتج وما تستلزمه هذه التبعية من خضوع وخنوع. حالة النفور والعداء بين الزوجين تنتقل من الخفاء إلى العلن، من الكمون إلى السطح.. هذا يبدو جلياً من خلال محاولات الزوج ترك زوجته وحدها مع المنتج الذي يرغب فيها جنسياً، بل ويشجعها على مرافقة المنتج. عندما يدعوهما المنتج إلى مسكنه، نرى الزوج يقودها إلى مقعدها في سيارة المنتج ليستقل هو سيارة أجرة. من هذه اللحظة يصبح احتقار الزوجة له مكشوفاً وجلياً. لكن الأسوأ من احتقار زوجته له، إحساسه هو بكراهية نفسه، الذي لا يبدو جليــــاً وصريحاً، بل هو كامن، ويتجلى في ارتيابه وعدم ثقته بزوجته.. وهو الأمر الذي يجعله يتنازل عنها لصالح المنتج. في أحد المشاهد التي تجمعه مع المخرج «فريتز لانج» نسمعه يقول: «يوليسيس لم يعد إلى البيت إلا بعد عشر سنوات، ذلك لأنه لم يرغب في العودة. لم يكن سعيداً مع بينيلوبي. لقد اتخذ من حرب طروادة ذريعة لكي يبتعد عنها». في موازاة الصراع بين الزوج والزوجة، نشهد صراعاً آخر بين المنتج والمخرج فريتز لانج في كيفية تناول ومعالجة «الأوديسة»، الذي هو في جوهره صراع بين الفن والتجارة، بين المثل الكلاسيكية والابتذال والسوقية.. إنهما يمثلان النقيضين أخلاقياً وثقافياً. سينمائياً، المخرج يريد أن يخلق فيلماً يأسر به فخامة وعظمة الإغريق، ويبرز فيه الصراع البطولي حسب ما ورد في الأوديسة، بينما المنتج، الذي يمثّل القوة الأيديولوجية يريد فيلماً يدغدغ غرائز الجمهور. وعلى الرغم من دفاع المخرج عن رؤيته ومقاومته لضغوطات المنتج، إلا أنه يبدو شخصية أخلاقية وغير فعالة أو مؤثرة. الفيلم يتناول عملية تصوير فيلم معد عن كتاب هوميروس «الأوديسة». وعبر هذا يقدم جودار تعليقاً أو تفسيراً خاصاً لقصيدة هوميروس الملحمية. في هذا الشأن، الفيلم يقدم ملاحظات حول طبيعة تحويل النص إلى فيلم، إضافة إلى الترجمة اللغويـــة. في الفيلم أربع لغات رئيسية «الفرنسية، الإيطالية، الألمانية، اليونانية» تتفاعل في ما بينها، ويمسك خيوطها مترجم. ما الذي يضيع في الترجمة؟ ما الذي يتم إحرازه؟ ما الذي يتغير؟ يقول جودار «المصدر نفسه»: «الفيلم، وراء نطاق الدراسة السيكولوجية لامرأة تحتقر زوجها، هو قصة عن المنبوذين من المجتمع الغربي، الناجين من سفينة الحداثة الغارقة، الذين بلغوا يوماً جزيرة مهجورة غامضة، الذين سرهم هو افتقارهم للسر، أي للحقيقة. في حين كانت أوديسة يوليسيس ظاهرة فيزيائية، مادية، إلا أنني صورت أوديسة روحية: عين الكاميرا التي تراقب. أو كما يقول بازان: السينما تستعيض عن أحداقنا في رؤية عالم متناغم مع رغباتنا». خلافاً لأعماله السابقة، ذات الحس التجريبي والارتجالي، والنزعة التقشفية، هذا الفيلم مصور بالألوان وسينما سكوب، مع منتج إيطالي «كارلو بونتي» معروف بأعماله التجارية، ونجوم مشهورين «من فرنسا وأمريكا» وفريق عمل دولي. إنه الفيلم الأول والوحيد الذي يحققه لصالح شركة إنتاج ضخمة.وهنا يستخدم جودار الأسلوب الوثائقي بدلاً من السرد التقليدي، ويقول: ««الاحتقار» فيلم بسيط عن أفكار مركبة ومعقدة».عبر اختيار جودار للمخرج الألماني الشهير فريتز لانج لتأدية دور المخرج السينمائي، الذي هو في صدام مستمر مع إدارة الإنتاج فإنه يوجه تحية تقدير لهذا المخرج الكبير.
«الاحتقار».. حيث الروايــات تمكّن المخــرج من أفضــــل الأفلام
18 سبتمبر 2013