كتب - أمين صالح: كان المخرج الإسباني لويس بونويل في الرابعة والسبعين عندما حقق فيلمه «شبح الحريــــــــــة» The Phantom of Liberty 1974 الذي حاز على جائزة نقاد أمريكا كأفضل فيلم وأفضل مخرج.شخصيات الفيلم تظهر بوصفها صوراً ذهنية، تجسيداً لأنماط من السلوك. الحبكة والشخصيات، التي يسلط بونويل ضوءه عليها، مبنية تماماً على الصدفة. الصدفة هي التي تحرك الحبكة.الأحداث تدور في مجتمع لم يعد يمارس الحرية بمعناها الأصلي والجوهري. هناك من يحط من قدَر الحرية بجعلها مقتصرة على الرغبات الذاتية الخاصة، التافهة والأنانية.الفيلم يتحرّى انحرافات الوعي، واللاعقلانية، التي تشهد على انحدار البورجوازية، مع قيمها ونظامها الاجتماعي. البورجوازية وهي تهندس دمارها أو خرابها الخاص.بناء الفيلم يعتمد على أجزاء مركبة، كل جزء يتضمن «حكاية». أيضاً يعتمد على التداعيات الحرة للأفكار.يبدأ الفيلم بالثوار الإسبان وهم على وشك أن يعدموا بالرصاص في العام 1808 على أيدي جنود نابليون خلال الاحتلال الفرنسي. إنهم في لحظاتهم الأخيرة لا يقفون إلى جانب الحرية بل يهتفون «فلتسقط الحرية». يهتفون في لمسة سوريالية: تعيش الأغلال، تعيش العبودية. ذلك لأن الثورة انتصار منحرف للقيم البورجوازية. الثورة سوف تستبدل سلطة هذه الطبقة، وتخلد صيغة الحكم. إذاً هو استخدام سيئ للناس الذين من المفترض أن الثورة ترغب في تحريرهم. خيانة الثورات ونمو مجتمعات «ثورية» هي أكثر قمعية من تلك التي استبدلتها أو أطاحت بها. إنه يهاجم، أو يسخر من، الثورات التي تستبدل طاغية بآخر.من خلال لوحة جويا الشهيرة نرى الإعدام. ومن العام 1808 ينتقل الفيلم إلى الواقع المعاصر في باريس.. حيث نرى امرأة جالسة في المتنزه، تقرأ بصوت عالٍ عن الحدث الذي شاهدناه للتو. المرأة لا تنتبه لوجود رجل غريب يعرض على الأطفال صوراً توحي بأنها فاضحة ليتضح بعد قليل أنها بطاقات بريدية لمواقع سياحية ونصب تذكارية في أوروبا. زوجها يصف صورة «قوس النصر» بأنها فاحشة. هكذا تصبح الصور العادية والبريئة إباحية، ومثيرة للشهوة الجنسية، حسب استجابات عين وعقل الناظر وتأويلاتها.في أحد المشاهد نرى عدداً من الأشخاص يهمون بتناول الطعام. الملاحظ أنهم يعتبرون هذا الفعل -تناول الطعام- أمراً فاحشاً وقذراً، ولا ينبغي أن يمارَس -فعل الأكل- جهاراً وعلانية بل في غرفة صغيرة مغلقة. اللاوعي حلبة مفتوحة أمام رؤى، مشاعر، أحلام، هواجس.رجل بورجوازي يصحو من نومه كل ساعة ليجد زائراً غريباً في حجرة نومه: ديكاً، نعامة، ساعي بريد يدخل مع دراجته الهوائية ويقذف نحوه برسالة. في صباح اليوم التالي يأخذ الرجل الرسالة إلى طبيبه. ثم نتابع الممرضة في رحلتها لزيارة والدها المريض.الممرضة تمر بمحاذاة دبابة عسكرية، يسألونها إذا رأت أي ثعلب. يتضح أنهم صائدو ثعالب. الممرضة تتوقف لتقيم في نزُل. في الداخل، وقبل أن تخلد إلى النوم، يدخل غرفتها عدد من الرهبان يقدمون لها تذكارات دينية، إضافة إلى مواساتها بسبب قلقها على أبيها المريض، ثم تلعب معهم الـــورق. ثم يظهر رجل وامرأة، من ذوي الميول السادية المازوشية، ويقدمان عرضاً جنسياً.في غضون ذلك، في غرفة أخرى، نرى شاباً مع خالته المتقدمة في السن وهما يتذكران أوقاتاً جميلة عاشاها معاً عندما كان طفلاً. ثم يبدأ في مداعبتها بنعومة وبرومانسية، وعلى الرغم من معارضتها، يزيح عنها الملاءة ليكشف عن جسد عار وبكر. في صباح اليوم التالي، الممرضة توصل مدرّساً في كلية الشرطة، حيث التلاميذ يتصرفون بصبيانية فيما هو يلقي عليهم محاضرة عن القانون والغاية منه في المحافظة على النظام الاجتماعي. مكالمة تأتي لتقاطع المحاضرة معلنة موعد التدرب على الرماية. قائد عسكري يأتي لمساعدة الأستاذ على السيطرة على تلاميذه.ننتقل إلى الطبيب، الذي بكل لطف وكياسة يحاول أن يخفف من وقع الصدمة على مريضه المصاب بالسرطان، لكن عندما يناوله سيجارة، يصفعه المريض شاعراً بالإذلال، ويذهب إلى البيت دون أن يخبر زوجته عن حالته الصحية. يصلهما نبأ باختطاف أو اختفاء ابنتهما من المدرسة. هما يصران على اعتبار ابنتهما مفقودة، رغم حضورها معهما، واتخاذها نموذجاً لوصف المفقودة أثناء تقديمهما بلاغ بشأن الفقد في مركز الشرطة.إن تركيز الأبوين على فكرة الاختفاء أو الغياب يجعلهما لا يدركان أن ابنتهما حاضرة معهما، وجالسة أمامهما. عندما يذهبون إلى المخفر لتقديم البلاغ، في حضور الصغيرة أيضاً، هما يقدمان الأوصاف المطابقة لها من أجل البحث عنها.قناص وقور في مبنى، يبدأ في قنص الناس عشوائياً، وبهدوء. عندما يلقى القبض عليه، يتزاحم الناس من حوله في إعجاب شديد ويحاولون الحصول على توقيعه (أوتوغراف) كأي بطل أو مشهور. في المحكمة، يصدر القاضي حكمه بإعدام الرجل، لكنه يخرج حراً، في زهو، ويصافح الجميع.شقيقة مدير الشرطة، المتوفاة منذ أربع سنوات، تتصل به هاتفياً طالبةً منه أن يلتقيا في المقبرة، لأنها وعدته بإخباره عن سر الموت، لكن يُقبض عليه باعتباره مجنوناً.ينتهـــي الفيلــم بمظاهـــرة فـــي حديقـــة الحيوانات، ونسمع هتافات تعلن سقــوط الحرية، ثم صوت إطلاق نار. نحن لا نرى المظاهرة وعملية قمعها، بل تركز الكاميرا بؤرتها على النعامة وهي تنظر مباشرة إلـى الكاميرا، ثم تثبت الصورة.عمل حافل بالسخرية المريرة، بالدعابة السوداء الغريبة والصادمة.إنه عن تفسخ الطبقة البورجوازية، عن العمى الإرادي المقصود إزاء الواقع الجلي، عن المظاهر الخادعة، انحراف الوعي، هيمنة الجنون، الحضور الكلي للموت، تشوش الهوية الذاتية، العجز عن التمييز بين الماضي والحاضر، الحلم والواقع، الحياة والموت.