كتب - علي الشرقاوي: حين تواصلت مع مسلسل (ليالي الحلمية) للمبدع الراحل أسامة أنور عكاشة وإخراج إسماعيل عبدالحافظ، وهي كما يعرف من شاهدها من أبرز الأعمال الدرامية المصرية والعربية، عملت على تصوير التاريخ المصري الحديث من عصر الملك فاروق وحتى مطلع التسعينات على مدى 5 أجزاء. شارك في المسلسل نخبة كبيرة من الفنانين المصريين زاد عددهم على 300 ممثل.حين شاهدت هذا المسلسل، شعرت إن الرواية التلفزيونية الجديدة قد أخذت مكان الرواية التقليدية المعتمدة على شخصيات وإحداث واقعية، ولابد أن تكون الرواية التي ستكتب، بعد الرواية التلفزيونية التي اكتسحت العالم، مختلفة عن الأنماط السائدة. ومغايرة لها في الشكل والمضمون.وكنت قد تناقشت مع الصديق الراحل الناقد محمد أحمد البنكي، في إحدى الجلسات الحميمة، في رغبتي بكتابة رواية شعرية، فشجعني على ذلك، عملياً بدأت مقدمتها ولكن انشغلت عنها في أمور حياتية، يومية، وهي عادة ما تلهي الإنسان وتبعده عن إنجاز ما يروم إنجازه.وانتظرت كثيراً، إلى أن قرأت تجربة الصديق الروائي أمين صالح (شمالاً/ نحو بيت يحن إلى الجنوب)، والتي اعتبرها الرواية الشعرية الأولى في البحرين، بما تحمله من عوالم وأحداث وشخصيات لا يمكن أن نمسكها باليد، ولا يمكن أن نخضعها للتفسير المعتاد، فهذه رواية شعرية قائمة بذاتها، لا يمكن أن نطبق عليها كل آليات النقد، سواء القديمة والجديدة. لابد من دخولها عبر تقنياتها التي اشتغلت عليها. سواء السرد أو اللغة التي لا تكف عن التصاعد، أو عبر الشخصيات الغريبة التي اختارتها الأحداث، أن تكون هنا. والآن، حيث المكان كل مكان و الزمان كل الزمان. ومن الممكن أن تتحدث الرواية الشعرية عن كل اللغات. يقول الأستاذ حكت الحاج في موقع الحوار المتمدن وتحت عنوان (مفاهيم الرواية الشعرية وأَبدالاتها الكتابية حيرة في المصطلح وقلق في التركيب)، ترى ما الرواية الشعرية؟ كيف ترى إليها؟ وكيف نحدُّها ونموضعها في سياقها التاريخي والأجناسي؟- بدءاً علينا تجاوز ما يعرف في الغرب بمصطلح Verse Novel الذي يعني نوعاً من الشعر السردي الذي يصار من خلاله إلى إنشاء سرد روائي طويل، بواسطة مقطعات شعرية - بسيطة أو مركبة - موزونة، وتحتضن وقائع كبرى، وأصواتاً متعددة، وحواراً وسرداً ووصفاً وإثارةً، بأسلوب روائي. الرواية الشعرية عندي هي بدعة شعرية عربية، وبذلك فالمصطلح عربي غير وافد عبر الترجمة، وبالتالي له منظومته المنفتحة فكرياً وفنياً، وهي بذلك، أي الرواية الشعرية تعني قائمة مفتوحة لا مغلقة من استراتيجيات «الكتابة الشعرية بالنثر» إن صح التعبير بهذا الوصف.أمين صالح في روايته (شمالاً، إلى بيت يحنّ إلى الجنوب) يفتح كاميرا المخيلة على سعتها ـ ليصور لنا مجموعة من الشخصيات الحالمة بالخلاص من معاناتها والذهاب من الجنوب إلى الشمال، غير المحدد وغير المعروف وغير المطروق من قبل. أمين صالح يشدنا من أذاننا لمتابعة رحلة الأشخاص الذين اختارتهم طبيعة الحدث، والتعرف عليهم على رغباتهم المشروعة في الوصول إلى حل، ينهي كل مشاكلاتهم في هذا الجنوب الموبوء، بشتى أشكال العذابات المعيشية والنفسية والروحية.هل الأمل هو من يدفعهم دفع الغريق إلى تنفس فطرة هواء.هل هو الإيمان بأن هناك صوتاً يأتي من بعيد، عبر الفضاء الكوني، ليقنع المحتاج إلى من يساعده للخروج من أزمته.حتى ولو كان الذهاب إلى مكان مجهول. ودائماً، مع الصوت الخفي، يأتي الدليل والذي هو الآخر، لم يتحرك إلا بعد أن سمع الصوت، ودخل في حلم المحتاج إلى الهجرة، ليكونا معاً في قطع المسافة بين هنا وهناك، بين الجنوب المكتظ لقضايا شائكة، لا يجد لها أصحابها أي حل، وبين شمال يملك كل الحلول. أمين صالح يبدأ بأخذ هؤلاء المحتاجين إلى التشجيع بتغيير أوضاعهم، واحداً بعد الآخر، يأخذ الخادمة الجميلة التي فقدت زوجها، يأخذ الطفل المشلول، يأخذ المصورة التي فقدت مبرر وجودها، والبائع الذي يريد أن يزرع حقله، والبواب الذي يريد أن يجرّب السفر، والشحاذة التي تسعى لرؤية أمها الميتة، والقاتل الأجير الذي يريد تخليص نفسه بإنقاذ أحد ما من الموت، والعجوز الذي يبحث عن وجوه أصدقائه القدامى.ليسوا هؤلاء فقط ، إنما الإدلاء أيضاً، يرحلون معهم، في رحلة لا نعرف كيف استطاعوا جميعاً الوصول إلى البيت الواقف كالقلعة في الشمال.كانت دعوات الصوت الخفي المجهول الذي لا يعرف أحد من أين يأتي وكيف يتحرك عبر ذبذبات الهواء، ليصل إلى قلب المدعو إلى الرحلة، وإن لم يقتنع في المرة الأولى، فهناك الدليل الذي يقنعه، لأن نفس الصوت دعاه لأن يكون الدليل.وأنا أتابع أحداث الرواية، شعرت بأن أمين صالح، بصورة غير مباشرة، بالذهاب إلى الشمال الذي سوف يحل جميع القضايا العالقة أو تلك التي لم أجد لها حلاً.أمين صالح في هذه التجربة، يكتب الرواية الشعرية، الرواية الخارجة عن كل الأطر القديمة والحديقة، الرواية التي تؤكد قوة التجريب والمغايرة والاختلاف، عبر لغة متفجرة، صورها مفعمة برشاقة الكلمة الخارجة عن المألوف، صورها تشد القارئ شداً، بحيث لا يستطيع الفرار أو التوقف. وإن كانت طبيعة التجربة في رواية (شمالاً، نحو بيت يحن إلى الجنوب) غامضة، عصية على الفهم، فإنها تضع القارئ أمام ذاته، أنها من إنسان سلبي، يأخذ الإحداث كما في الروايات المعروفة، إلى إنسان إيجابي، يشارك في الحدث. ويتعامل معه، كما لو أنه المعني بما سوف يحدث. هل هو البرزخ؟وأنا أواصل قراءة الرواية، تصورت إن الروائي يأخذ كل هؤلاء إلى البرزخ والذي هو الحاجز بين الشيئين، قال تعالى (وجعل بينهما برزخاً) أي حاجزاً، والبرزخ في الشريعة: الدار التي تعقب الموت إلى البعث، فكل من مات من مؤمن أو كافر دخل في البرزخ، وتتكون دار البرزخ من عذاب القبر ونعيمه وعرض أرواح المؤمنين على الجنة، وأرواح الكافرين على النار. وقال ابن القيم: عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)، ولكن حين انتهيت من الرواية، شعرت أنه مكان آخر، مكان لا أعرفه وأشعر به من خلال اللغة الخادعة التي يطرحها أمين صالح، حتى يجعلني، كقارئي أتواصل معه، وأعيش ما يعيشه من الأحداث التي تعيشها شخصياته. أمين صالح، في هذه الرواية الشعرية، استفاد كثيراً من كتاباته السابقة، في كتابة القصة القصيرة والرواية وكتابة السيناريو وكتابة الأفلام الروائية والقصيدة المفتوحة على فضاء البياض، واستفاد من الترجمات السينمائية التي ترجم، ليخرج بعمل ملحمي، يحتاج إلى النقاد الذين عليهم أن يقرؤوا الرواية بدون أية آراء مسبقة، يحتاج إلى النقاد الجادين القادرين على تفكيك العوالم التي أدخلنا فيها أمين صالح، وكشف الأقاليم التي جرنا معه للدوران فيها. إن كل من يريد التعرف على ما يدهش، في اللغة والأحداث والتجارب والمنولوجات الداخلية للشخصيات، عليه أن يقرأ هذه الرواية الغامضة الأليفة كأصابع اليدين.