ارتبط سجن جزيرة روبن الذي كان أكثر سجون جنوب أفريقيا إثارة للرعب في فترة الفصل العنصري ارتباطاً لا ينفصم بنلسون مانديلا أشهر نزلائه، والذي قضى هناك عقوداً من الأشغال الشاقة يعلم زملاءه ويأسر حتى قلوب سجانيه التي قدت من حجر.كان السجناء السياسيون السود يحتجزون في عزلة بالسجن المشيد من صخور تعصف بها الرياح وسط مياه تمتلئ بأسماك القرش قبالة ساحل كيبتاون لفترة امتدت ثلاثة عقود، إلى أن بدأ الرئيس الأسبق فريدريك ديكليرك في إنهاء حكم الأقلية البيضاء عام 1990. وتحول السجن الآن إلى متحف ومزار سياحي شهير.كانت أول مرة يدخل فيها مانديلا الذي توفي أمس عن 95 عاماً إلى سجن جزيرة روبن عام 1962 ليقضى عقوبة قصيرة عن جرائم سياسية بسيطة، ثم عاد بعد عامين ليقضي عقوبة السجن المؤبد بعد إدانته بالتخريب والتآمر للإطاحة بالدولة.وصدرت الأحكام على مانديلا وكان عمره آنذاك 46 عاماً مع أعضاء بارزين آخرين في المؤتمر الوطنــــي الأفريقــي بالأشغـــــــال الشاقة، فكانوا يكسرون الصخور في محجر جيري. كان السجناء الذين يقيد كل أربعة منهم في سلاسل تربطهم معاً يعملون من ثمانِ إلى عشر ساعات يومياً خمسة أيام في الأسبوع. وألحق وهج الشمس المحرقة على الصخور البيضاء وتصاعد الغبار في المحجر أضراراً دائمة بعيني مانديلا. وبرغم المشقة والعناء لم يصب مانديلا جام إحباطاته على سجانيه.وقال كريستو براند السجان الذي صاحب مانديلا من عام 1978 حتى إطلاق سراحه في 1990 لرويترز خلال زيارة قامت بها الوكالة للجزيرة مؤخراً «كان دائماً ودوداً ومهذباً ومعيناً لغيره». وأضاف براند الذي يعمل الآن في متحف جزيرة روبن «أصبح مثل الأب بالنسبة لي. إذا ما احتجت بعض العون أو المساعدة في شيء كان دائماً حاضراً». في سيرته الذاتية «رحلتي الطويلة إلى الحرية» التي كتب معظمها في زنزانته يتذكر مانيدلا مشاعر الوحدة والعزلة التي كانت تنتاب السجناء.كتب يقول «كان سجن جزيرة روبن بلا شك أكثر المراكز قسوة وبطشاً في نظام العقوبات في جنوب أفريقيا». قد تبدو الجزيرة التي تقع على بعد عشرة كيلومترات من مدينة كيبتاون الساحلية البراقة قريبة من الشاطئ.لكن خلال رحلة مدتها 30 دقيقة بالزورق في مياه شديدة البرودة في جنوب المحيط الأطلسي تتراءى الظلال تحت مستوى الأفق وتبدوالمسافة أبعد.وكتب مانديلا «السفر إلى سجن جزيرة روبن كان مثل الذهاب إلى بلد آخر.. كانت عزلته تجعله ليس مجرد سجن آخر بل عالماً منفصلاً بذاته بعيداً كل البعد عن العالم الذي جئنا منه». كان الطريق من ميناء موراي المحصن حيث يحشد السجناء بعد وصولهم يؤدي إلى مبنى من الحجر الرمادي تحيطه حواجز تعلوها الأسلاك الشائكة.وفي طريقهم إلى جناح من طابق واحد كان في استقبال السجناء كلمات ساخرة كتبت على قوس يعلو الطريق تقول «مرحباً بكم في سجن جزيرة روبن.. نحن نخدم بفخر». وفي القسم (ب) يرشد سجناء سياسيون سابقون الزوار إلى زنزانة السجن الانفرادي لمانديلا. وهناك تجد منضدة صغيرة عليها فنجان معدني وطبق وعلبة للاغتسال من الصفيح المنبعج كما كانت قبل عقود.تطل نافذة صغيرة على الفناء، وعلى الأرض حشوة من الليف الأبيض عليها ثلاثة أغطية رمادية اللون تستخدم كسرير حتى لا ينام النزلاء فوق الأرضية الإسمنتية الباردة. يكتب مانديلا الذي كان ذات يوم ملاكماً هاوياً نحيلاً «كان بإمكاني أن أقطع الزنزانة في ثلاث خطوات. عندما كنت أرقد كان بوسعي أن أتحسس الجدار بقدمي بينما يلامس رأسي الجدار الإسمنتي على الجانب الآخر». كان رقم مانديلا في السجن 64-466 وأصبح مشهوراً الآن في الحملات العالمية لجمع الأموال لمكافحة مرض الإيدز ولمؤسسة مانديلا للطفولة.وتغيرت الظروف خلال 18 عاماً قضاها في الجزيرة تبعاً للأوضاع السياسية في البلاد فضلاً عن هوى المسؤولين القائمين على السجن. وخضع السجن لنظام قاسٍ بعد اغتيال رئيس الوزراء هندريك فيرورد في سبتمبر 1966.لكن مانديلا استغل مهاراته في المحاماة لمنع محاولات عديدة من الحراس لمضايقة النزلاء، وأصر على حقهم في الدراسة للحصول على درجات جامعية. كما كان يحرص على محاولة التواصل مع الحراس ومعظمهم من البيض الذين يتحدثون اللغة الأفريكانية. وإلى جانب إرادته الحديدية ومواقفه التي تستند إلى المبادئ، ساعد كرم مانديلا وسحره الذي يمس القلوب سريعاً في تخفيف القواعد الصارمة في السجن. في بعض الأحيان كان يسمح للسجناء بطهو المحار وبلح البحر وجرد البحر خلال وقت الغداء بينما يجمعون الأعشاب البحرية لتصديرها إلى اليابان.كما كان بوسعهم إجراء عمليات الختان وهي جزء مهم من طقوس قبلية تمهد لمرحلة الرجولة. يقول مانديلا «كان يبدو أن النزلاء هم من يديرون السجن وليس السلطات.» وسجن أول معتقل سياسي ويدعى أوتشوماتو في الجزيرة عام 1658، لكنه فر بعد عام مع سجناء آخرين في قارب مسروق في واحدة من محاولات فرار ناجحة معدودة سجلها المؤرخون.وفي القرن التاسع عشر كانت سلطات الاستعمار البريطاني ترسل مرضى الجذام والمختلين عقلياً إلى الجزيرة التي سماها المستعمرون الهولنديون على اسم الفقمة التي تعيش فيها، والفقمة بالهولندية تعني «روبن».ويعيش حالياً نحو 200 شخص على الجزيرة بينهم سجناء سياسيون سابقون والعاملون في المتحف. وأعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) في عام 1999 الجزيرة موقعاً للتراث العالمي. وللمساعدة في استكمال تحويلها من مكان للنفي تستضيف الجزيرة حالياً حفلات للزفاف في عيد الحب وتجتذب أزواجاً من كل أنحاء العالم لعقد قرانهم في الكنيسة التاريخية الرئيسة هناك.