كتب - أمين صالح: حب.. عنوان الفيلم قد يبدو غريباً، وغير عادي، لفيلم يتحدث بالدرجة الأولى عن انحلال وزوال الجسد البشري (بفعل المرض)، بشكل تدريجي، والتأثير الذي يمارسه هذا على المريض من جهة، وعلى أولئك المحيطين به، الذين يشهدون التدهور والانحلال. مع ذلك، نحن أمام قصة حب عميقة: بورتريه لرجل يدعى جورج (جان لوي ترينتينان) وزوجته آن (إيمانويل ريفا) في خريف العمر، في الثمانين من العمر، في أواخر علاقة طويلة، عميقة، حافلة باللحظات السعيدة والتعيسة، يجدان نفسيهما في مواجهة المحتوم: الموت. الموت الذي يملي شروطه. الموت الذي يقتحم المكان الهادئ ويعلن عن حضوره بأكثر الأشكال عنفاً. في مشاهد الافتتاحية نرى (في ما هو مفترض أن يكون فلاشاً متقدماً flash forward) رجال الإطفاء يقتحمون شقة محكمة الإغلاق ويكتشفون وجود جثة متحللة لامرأة عجوز، ممددة على سريرها، ومحاطة بالزهور. ثم مباشرة نرى الجمهور يحضر حفلة موسيقية، من بينهم جورج وآن. الفيلم منفذ في موقع واحد تقريباً. باستثناء مشهد يدور في حفلٍ موسيقي في بداية الفيلم، ومشهد خارجي وجيز في الباص، فإن الكاميرا لا تغادر شقة الزوجين المتقدمين في السن: جورج وآن.. الشقة الباريسية المؤثثة بأناقة وذوق رفيع، الرحبة والعامرة بالكتب في الموسيقى والفن والأدب والأشرطة الموسيقية، المصفوفة على الأرفف بشكل منظم وأنيق. وثمة بيانو ضخم يتوسط الصالة. الشقة تصبح بذاتها شخصية هامة وأساسية. إنها تعبر بفصاحة عن خلفية القاطنين والعمر الذي عاشاه. هي جزء منهما. كلاهما كانا في السابق يدرسان الموسيقى. وهما الآن متقاعدان. ينعمان بحياة هادئة، هانئة، ساكنة، دافئة، محاطة بالحب والقناعة والاطمئنان، من غير أن يخمد في روحيهما ذلك الشغف بالموسيقى والفن عموماً.في البداية، عندما يعود الزوجان من الحفلة الموسيقية يكتشفان أن شخصاً حاول كسر القفل واقتحام الشقة، لكنه لم يسرق شيئاً (نحن لا نعرف هويته، لكن قد يكون نذير شر، وقد يكون الموت نفسه) ففي صباح اليوم التالي، بينما هما جالسان في المطبخ يتناولان الإفطار ويتحدثان في هدوء، وعلى نحو اعتيادي، عما ينويان فعله في هذا اليوم، بغتة يكتشف جورج أن تحولاً مفاجئاً يعتري زوجته، إذ تتوقف فجأة عن الكلام، وتظل جالسة قبالته صامتة، جامدة بلا حراك، لا تستجيب له ولما يقوله، ولا تتفاعل معه على الإطلاق، بل تبدو شاردة الذهن تماماً.. تبدو كما لو في حالة إغماء تخشبي. بعد دقائق، تعود إلى حالتها الطبيعية وكأن شيئاً لم يحدث لها. إنها لا تتذكر شيئاً. أما هو فينتابه مزيج من الخوف والحيرة والغضب، إذ يظن أنها تمازحه أو تسخر منه بتدبير مثل هذا المقلب. كما لو أنها تمارس لعبة فيها يكون هو أضحوكة، وهدفاً للتندر.فيما بعد يتضح أنها مصابة بالسكتة أو بالجلطة الدماغية. حالتها الصحية سرعان ما تسوء. تجرى لها عملية جراحية غير ناجحة. الخطأ في محاولة فتح الشريان السباتي يفضي إلى شلل في جانب من جسمها، فلا تكون قادرة على المشي، وتحتاج إلى كرسي متحرك، كما إنها تعجز عن العزف على البيانو. حتى وهما في هذه المرحلة الحرجة، ورغم رعب الحالة، لا تفارقهما الكياسة واللطف والدماثة. يظلان على وئام وتفاهم وبالدرجة ذاتها من الحساسية. جورج شخص مباشر، صريح، حاسم. صوته هادئ وواثق. وهي، في لحظة صفاء ذهني، تطلب منه أن يأخذها إلى البيت وتجعله يعدها، على مضض، بأن لا يسمح لهم بأخذها ثانيةً إلى المستشفى حتى لو ساءت حالتها أكثر. بعد ذلك مباشرة تصاب بسكتة دماغية أخرى، أكثر خطورة، تجعلها عاجزة تماماً عن الحركة والنطق. الاثنان -جورج وآن- يشغلان حيز الفيلم كله، ولا يشاركهما غير بضعة زائرين: ابنتهما الوحيدة إيفا (إيزابيل أوبير).. وهي أيضاً موسيقية، متزوجة، وتعيش مع أسرتها. نراها حزينة على أمها وقلقة من ثقل العبء الذي يرهق كاهل أبيها بينما يتولى العناية بأمها. تقترح إدخالها مصحاً أو دار عناية خاصة، لكن أباها يرفض بشدة، بل يجد أن حضورها غير نافع ولا يساعد. مع مرور الوقت تنتابها الحيرة أكثر فأكثر من محاولات والدها التحكم كلياً في الوضع والسيطرة عليه.. إلى حد أنه يقفل باب حجرة النوم حتى لا يتمكن أحد من رؤية زوجته وهي في حالة عجز تام وتقترب من إقليم الموت، الأمر الذي يجعل ابنته تحتج قائلة في تحدٍ: «لن تقدر أن تمنعني من رؤيتها». هناك أيضاً زوج إيفا البريطاني (ويليام شيميل) وهو عازف بيانو تتلمذ على أيديهما.. إضافةً إلى ممرضة.منذ تلك اللحظة فصاعداً، تكون علاقة الحب التي ربطت بينهما موضع امتحان صعب. يبدأ جورج في التعامل مع طاقات وقوى زوجته الذابلة، المتدهورة، والمتلاشية تدريجياً بعد إصابتها بالسكتة الدماغية. هذه المرأة التي كانت تنبض بالحياة تصبح عاجزة عن الحركة والكلام. نراها تضمحل أمام أنظارنا.. جسمانياً وذهنياً. في حين يعرض هانيكه، ربما بلا شفقة، تفاصيل هذا الانحلال أو التدهور بكل مظاهره وجوانبه المرعبة، حيث تفقد تدريجياً السيطرة على حركة أعضاء جسمها ثم صوتها، والمرعب أكثر في الأمر أنها تدرك ذلك وتعي أنها في طور الاضمحلال وفقدان كل ما يربطها بالواقع وبالحياة. الزوج يستنفد كل طاقته في القلق بشأن صحتها الذابلة وفي كيفية توفير العناية لها. لا يعود هناك حوار بينهما. إنه بالأحرى حديث متقطع، متشظٍ، ومن طرف واحد. الحالة الحميمية الوحيدة بينهما هي التي يتم توصيلها عبر النظرات المتبادلة. مخاوفه تتجسد في أشكال كابوسية: هكذا نراه في الرواق، خارج شقته، يسير في الظلام مليئاً بالرعب. وهو لا يتحرر من كوابيسه المفزعة إلا عندما يقرر أن يحارب مخاوفه. إن مشاهد مثل محاولة اقتحام الشقة بقصد السرقة، وكابوس الهجوم على الزوج، هي أشكال تمثل التهديد الذي يمارسه العالم الخارجي. عن هذا يقول هانيكه: «الأفراد الذين يكونون في حالة ضعف، بدني أو عقلي، يتملكهم هذا الشعور، وينظرون إلى العالم الخارجي بوصفه عدائياً ومهدداً. كل ما هو مجهول أو غير متوقع يرى كخطر محتمل».
القتل بوصفه فعلاً من الحب «2/3»
02 يناير 2014