«تقرير - بنا»: تحظى التفاعلات بين الدول بنصيب كبير من الاهتمام في حقل دراسات العلوم السياسية عموماً، والعلاقات الدولية بشكل خاص، وربما يرجع ذلك لسببين أحدهما يتعلق بأهمية استقراء وتفسير نمط السلوكيات القائمة بين هذه الدولة وتلك، والآخر يرتبط بمدى إمكانية استشراف مسار هذه السلوكيات وأبعادها، فضلاً عن ثقلها وحجم تأثيرها وأي شكل يمكن أن تتخذه في المستقبلين القريب والبعيد.والمدقق في نمط التفاعلات الذي دار بين البحرين والهند على مدار السنوات الخمسين الماضية، وكللتها الزيارة الملكية الأخيرة، يمكن أن يستخلص حقيقة واحدة مفادها أن البلدين يقدمان مثالاً لما ينبغي أن تقوم عليه العلاقات بين الدول، ويستطيعان -بحرصهما على تطوير علاقاتهما الثنائية- الوصول إلى آفاق أرحب من التعاون المشترك الذي يتجاوز الأطر السياسية والاقتصادية المعروفة سندهم في ذلك أواصر الروابط التاريخية التي تربط البلدين، والأسس الوطيدة والأركان الراسخة التي تقوم عليها، والأطر التنظيمية الموضوعة لتنميتها والنهوض بها.الدليل على ذلك ما أسفرت عنه زيارة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى الأخيرة من نتائج باهرة، حيث يمكن عند قراءتها واستخلاص الدروس المستفادة منها التركيز على ثلاثة مشاهد حفلت بها، خاصة مع الاستقبالات والمباحثات التي دارت خلالها، وكشفت ليس فقط عن رغبة عارمة لدى قادة البلدين في تعزيز العلاقات المشتركة، وإنما عن مستوى عال من التنسيق والتشاور شمل العديد من الملفات والقضايا، المحلية منها والإقليمية والعالمية.المشهد الأولالحفاوة التي حظي به جلالة العاهل المفدى عند وصوله وخلال لقاءاته مع المسؤولين في دولة الهند الصديقة، وحتى مغادرته عائداً إلى أرض الوطن، ويمكن أن نرصد هنا عدة مؤشرات تبرهن على هذا المشهد وتوضحه، منها: مراسم الاستقبال الرسمية التي أقيمت في القصر الرئاسي بالعاصمة الهندية نيودلهي، حيث موكب الخيالة وإطلاق 21 طلقة ترحيباً بمقدم سموه، فضلاً عن عزف السلامين الملكي البحريني والهندي واستعراض حرس الشرف الذي اصطف لتحيته، كما كان على رأس مستقبلي سموه والوفد المرافق له الرئيس الهندي ورئيس الوزراء وعدد من الوزراء في الحكومة الهندية.ويلاحظ أيضاً تلك الكلمات القوية والصريحة والعميقة التي عبر فيها الرئيس الهندي عن إعزازه وتقديره للبحرين، قيادة وشعباً ودوراً ومكانة، خاصة عندما قال في مأدبة العشاء التي أقامها على شرف جلالة العاهل المفدى والوفد المرافق له: «هناك أدلة أثرية من علاقاتنا تعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد (...) وأن الهند والبحرين يشتركان في ماض مجيد وحاضر حيوي (...) وأن العلاقات تغطي الفضاء الكامل من العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والاتصالات الشعبية». ويعكس هذا التصريح حقيقتين، جذور التفاعلات المشتركة بين البلدين، وحرص قيادتهما على حمايتها والحفاظ عليها وتنميتها، ولا أدل على ذلك من احتضان البحرين لعدد كبير من المغتربين الهنود الذين يحظون برعاية كاملة من جانب المملكة، ويتمتعون بحقوقهم كافة، خاصة الدينية منها والعمالية، التي مكنتهم من الازدهار والرخاء ورفع مستواهم البشري والمعيشي، والعمل بكل أريحية ليسهموا في مشروعات التنمية البحرينية وليشكلوا «جسراً قوياً في تعزيز الشراكة البحرينية الهندية»، حسبما وصف الرئيس الهندي.المشهد الثانيالمباحثات التي أجراها عاهل البلاد المفدى مع المسؤولين في جمهورية الهند الصديقة، وفي مقدمتهم الرئيس ونائبه ورئيس الوزراء ووزير الشؤون الخارجية، فضلاً عن المناقشات الثنائية التي أجريت على مستوى الوفود، وبدت أهمية هذه المباحثات من عدة أمور..أولها: البيان الختامي المشترك الذي صدر إثر انتهاء الزيارة، وكشف عن «عمق العلاقات الثنائية الوثيقة القائمة على أسس التاريخ المشترك والتواصل الثقافي، والتي ازدهرت وتطورت عبر العلاقات الاقتصادية التي تشهد نمواً مضطردا»، وذلك حسب نص البيان الذي أبرز أجواء المودة والصداقة التي أحاطت بالمناقشات المستفيضة التي جرت بين مسؤولي البلدين، وحرص قادة البلدين المشترك على تعزيز التفاهم وتوسيع أطر التعاون الثنائي لتشمل المجالات كافة.ثانيها: الاتفاق على إنشاء اللجنة العليا المشتركة برئاسة وزيري خارجية البلدين كبديل للجنة التعاون الاقتصادي والتقني الموقعة في أبريل 1981، وذلك كآلية جديدة لتأطير عملية التنسيق والتشاور ولتكون بمثابة مظلة للتعاون الثنائي بين البلدين، ولاشك أن وعي قادة الدولتين بأهمية هذه الآلية المؤسسية دفعهما ليس فقط إلى تجديد العمل بهذه الآلية، وإنما تطويرها أيضاً لتحسين أدائها ورفع مستوى فاعليتها، وذلك للوصول إلى آفاق أرحب ومستويات أعلى من الشراكة الاستراتيجية في مختلف المجالات، حسبما أكد على ذلك البيان الختامي، الذي أشار إلى أن الجولة القادمة من اجتماعات اللجنة الجديدة ستكون في منتصف العام الجاري. ثالثها: التوافق التام في مواقف الدولتين ناحية الكثير من القضايا المحلية والإقليمية والدولية، وهي نقطة جوهرية في غاية الأهمية كشفت عنها مباحثات العاهل المفدى مع المسؤولين في دولة الهند الصديقة، إذ إن استمرار التعاون وتنظيم آلياته لا جدوى من ورائه دون أن يكون هناك توافق حول القضايا ذات الاهتمام المشترك، وهو ما أدركه قادة البلدين، وعملا من أجله، وبما يتيح مستقبلاً فرصاً أكبر لدعم وتعزيز عملية التعاون الثنائي.ويمكن إيضاح هذا المعنى بالنظر لمستويات التوافق التي تبدت في المباحثات بين البلدين، حيث:- الالتزام الهندي بالثوابت الوطنية البحرينية، خاصة فيما يتعلق منها بمحاربة الإرهاب، وإيمانها بأحقية البحرينيين وحدهم في إقرار أفضل السبل للمضي ببلادهم في مسيرة السلام والرخاء، وقد تأكد هذا المعنى في تصريح لوزير خارجية جمهورية الهند أكد فيه أن بلاده تدعم جهود مملكة البحرين في مكافحة الإرهاب وتطويقه، في إشارة إلى تشابه التجربتين وما واجهته بلاده في هذا الصدد، وأن البلدين يعملان على إيقاف هذا الإرهاب وتطويقه، وأنهما يحرزان تقدماً في ذلك، كما تأكد هذا التوافق أيضاً بالنظر لرغبة البلدين في الاستفادة المشتركة من خططهم التنموية الطموحة باعتبار أن البحرين بوابة للخليج وتتطلع لتحقيق نتائج إيجابية في مشروعها الاقتصادي والتنموي شبيه بما تحقق في الهند، وأن هذه الأخيرة بصدد نقل تجربتها ونجاحاتها للدول القريبة.- ثوابت الأمن القومي للدولتين، وقد بدا التوافق البحريني - الهندي أيضاً في هذا الشأن بالنظر إلى مباحثات جلالة العاهل المفدى التي تناولت الوضع الإقليمي، خاصة بعد أن أكدت الدولتان ضرورة حفظ الأمن والاستقرار في كل من غرب وجنوب آسيا، فضلاً عن الشرق الأوسط، على اعتبار أن الوضعين الأمني والسياسي بالمنطقتين له تأثير مباشر على مصالحهما وأمنهما القومي، وتبدو هذه الحقيقة واضحة في مدركات صانع القرار الهندي، حيث تحظى البحرين تحديداً بموقع استراتيجي مهم لديه وللعالم، خاصة إذا علمنا أن ثلث تجارة النفط العالمية عبر البحار تمر من خلال المياه الإقليمية البحرينية بشكل يومي، مثلما أكد على ذلك رئيس الوزراء الهندي، وربما ذلك يفسر دعوة البلدين للحل السلمي لكافة القضايا الإقليمية والعالمية، ويبرر في الوقت ذاته للتحرك المشترك الذي تقوم به الدولتان من أجل مواجهة أية تحديات تواجه الأمن الإقليمي في محيطيهما، حيث اتفق الجانبان على إجراء حوار أمني سنوي وتطوير التعاون في مجالات الدفاع.- دعم القضايا المشتركة، ليس بغريب في ضوء ذلك أن يتسع مستوى التنسيق بين قادة البلدين على صعيد دعم القضايا والملفات ذات الاهتمام المشترك على الصعيدين الإقليمي والعالمي، خاصة أن للبحرين رؤيتها المعروفة من قضايا النظام الإقليمي والدولي وإصلاح الأمم المتحدة وضرورة تمثيل الدول النامية بشكل عادل في مجلس الأمن بما يراعي التطورات، وبما يمكن من مواجهة التحديات الدولية، وهنا تبدو أهمية دعم المواقف المشتركة لكلتا الدولتين، حيث جدد العاهل المفدى دعم المملكة للهند في مساعيها الرامية لشغل منصب عضو دائم في مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى ترشح الهند لعضوية غير دائمة في مجلس الأمن الدولي للأعوام 2021-2022، كما يظهر في دعم نيودلهي للحقوق العربية في مختلف الدوائر، سيما منها القضية الفلسطينية. المشهد الثالثالاتفاقيات ومذكرات التعاون والتفاهم التي تم التوقيع عليها بين قادة ومسؤولي البلدين، وهنا من المهم ملاحظة أنها لم تقتصر على الجانب السياسي والاقتصادي فحسب، وإنما شملت كافة أوجه التعاون العلمي والتكنولوجي والرياضي والشبابي والثقافي والمالي والتجاري، كما إنها لم تغفل الجانب غير الرسمي باعتباره قاطرة النمو في كلتا الدولتين، حيث فتح قادة البلدين عبر مباحثاتهما المستفيضة لمؤسسات القطاع الخاص الباب واسعاً للتحرك والاستفادة من الفرص المتاحة للنمو والازدهار المشترك، وذلك من قبيل: إنشاء لجنة لتطوير الروابط الاقتصادية بين البلدين، والاتفاق على زيادة التعاون بين مجلس التنمية الاقتصادية واتحاد الصناعات الهندية، والعمل على إنشاء منتدى البحرين والهند للأعمال، والمشاركة في استقطاب عدد من الوفود الاقتصادية بهدف تشجيع استثماراتهما في الدولتين..ولا أدل على ذلك من: استضافة البحرين لمعرض ومؤتمر البحرين الهند في أكتوبر 2013، ومشاركة البحرين في مؤتمر بتروتك 2014، ومؤتمر القمة للصناعات الهندية السنوي على المستوى الوزاري يناير الماضي، وفعاليات المنتدى الاستثماري البحريني الهندي بمدينة نيودلهي خلال الزيارة السامية الأخيرة، ناهيك عن رعاية مجلس التنمية الاقتصادية لقمة CII للشراكة عام 2015، وغيرها، مما يوفر إطاراً قوياً لتعزيز التعاون في كافة الميادين بين البلدين.وتبدو أهمية هذا المشهد الأخير والفعاليات التي ترتبت عليه وأسفرت عنه بالنظر لعدة اعتبارات، منها: زيادة معدلات التبادل التجاري بين البلدين بنسبة 135% خلال الفترة من 2006 حتى 2011، تجربة النمو الهندية التي تحقق معدلات عالية ومتسارعة وتحظى بإعجاب وتقدير كبيرين عالمياً، خاصة أنها تعد الآن قطباً اقتصادياً عالمياً، كما تعد شريكاً تجارياً رئيساً لدول التعاون الخليجي، ويمكن أن تستفيد البحرين من هذه الوضعية في ضوء سعيها لتكرار هذه التجربة على صعيد قطاعاتها الوطنية، وكنقطة عبور إلى اقتصادات دول الخليج العربية، وهو أمر سيضمن بالتأكيد تدفق استثمارات أكبر وتحقيق مردود اقتصادي كبير سيسهم في تعزيز نهضة البحرين في شتى القطاعات.