كتب - جعفر الديري: تتحسـس العالــم بإصابعهــا مثــل شخــص أعمى، تسير في الدرب وحيدة برفقة أغنية وكلب، محاولة أن تستدعي لحظات ضمن تجربة مرت بها. إنها الشاعرة البحرينية وضحى المسجن، تؤكد في هذا اللقاء أن الكتابة تشكل لها تأريخاً للذات وتوثيقاً للألم، في ظل حياة ليست شعرية بما يكفي لتتوقف عن الكتابة. يقول الشاعر اللبناني إلياس أبي شبكة كما قال من قبل الشاعر الفرنسي ألفريد دي موسيه، «كل نفس لم تحترق لا تنير»، وعلى غرار الرومانتيكيين، تجهد وضحى المسجن في حملنا إلى عالم الألم،، لماذا؟- الأمر لا يتعلق بقصدية ما، ليس لديّ نية لحمل أحد على تحسس الثقوب التي تملأ العالم، إنني أعترف فقط، أترك روحي عارية على خشب الصلب، روحي التي أجرجرها في شوارع الذاكرة كي لا تتألم لفقد أحد أو شيء، أحترق قليلاً علني أفهم نفسي.الكتابة ليست هروباًأنت شاعرة مثقفة، تسعين إلى المعرفة دائماً، غير أن المعرفة ليست دائما نعمة، أليس النسيان أجدى أحياناً؟! - نسيان الألم؟ أم نسيان المعرفة؟ هل يوجد نسيان من هذا النوع؟ إن يكن هذا النوع من النسيان موجوداً فأنا لم أعثر عليه بعد، حين تعرف أكثر مما يجب لا يعود بإمكانك النسيان؛ لأن المعرفة هنا تتحول لطريقة حياة أكثر من تراكم للمعلومات. قبل عشر سنوات من الآن كان من الممكن أن أجد النسيان أو أعرفه، كان من الممكن أن أطمح إليه كبنت مراهقة تعتقد أن الألم الذي تستشعره متعلق بظرف معين أو بأحد معين أو بحياة معينة، لكني الآن غيرتُ رأيي لم يعد النسيان يغريني ولم أعد أطمح إليه، لأني أدركت أن الكتابة عندي ليست تسلية، ليست هروباً من شيء أو حالة، الكتابة تأريخ للذات، وأنا أوثق ألمي بالكتابة، مثل شخص أعمى أتحسس العالم بإصابعي وأكتبه.مجموعتك «السير وحيدة برفقة أغنية وكلب»، أشبه برحلة غوص في النفس البشرية وما فيها من غياهب،، ترى هل وصلت وضحى إلى النصف المضيء؟ إلى حقيقة ما تسكن إليها؟ - تجربتي في (السير وحيدة برفقة أغنية وكلب)- مجموعتي الجديدة الصادرة قبل أشهر عن دار مسعى للنشر والتوزيع- أعدها ممراً صغيراً في درب أردتُ أن أسير فيه، الدرب الذي كنت ألمح ظلاله منذ بدأتُ الكتابة، الدرب الذي ظلت روحي تئن لأنها تلمحه ولا تستطيع أن تضع خطوتها عليه. وفي هذه التجربة ذهبت أبعد قليلاً مما كنتُ أتوقع، اصطدمتُ بالأشياء، اصطدمت بشخوص وحيوات في ذاكراتي، رأيتُ ما حدث وما سيحدث، لكني لم أصل، ربما ليس من مصلحتي أن أصل لشيء بما في ذلك النصف الذي وصفته (بالمضيء)، ربما يجب أن يظل الدرب غامضاً وتبقى الظلال تغطي جزءاً لا أتبينه، لعلها الوسيلة الوحيدة لأفهم نفسي وأفهم العالم، ألا تكون هناك إجابات للأسئلة، ألا تكون هناك محطة وصول، أن يكون هناك درب ممتد أسير فيه وحيدة.الكتابة تغنيني عن الاستسلامأشار أكثر من ناقد إلى مجموعة «السير وحيدة برفقة أغنية وكلب»، وكيف أن روح الروائية الإنجليزية فرجينيا وولف، والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، اللتين أنهيتا حياتهما انتحاراً، تطلان بوضوح في المجموعة،، هل تعمدت استحضارهما فعلاً؟ - لا أذكر أن الإشارة لهذا الحضور وردت في كثير من القراءات، من خلال متابعتي للصحافة لم أجد سوى إشارة واحدة مقاربة لما تتفضل به في قراءة قدمها الشاعر السعودي (عبدالله السفر) في إحدى الجرائد السعودية بعد صدور المجموعة بأيام، لكن سواء كثرت الإشارة لذلك أو لم تكثر، فإن ظلال سلفيا بلاث أو فرجينيا في مجموعتي أشبه بما يحدث الآن في الغرفة التي أكتب إليك منها، ثمة أشياء هنا، وضعت بمحبة في هذه الغرفة وبمرور الوقت لم أعد التفت لها كثيراً، لكن المؤكد أنها تركت ظلالها على مشهد الحياة في مكتبي، وهي أشياء تشبهني بشكلٍ ما. الطريقة التي اختارتها كلٌ من فرجينيا وسلفيا لإنهاء حياتهما طريقة مرعبة جداً رغم جرأتها، أعتقد أني لا أملك هذه الجرأة من جهة ومن جهة أخرى الكتابة تغنيني دائماً عن الاستسلام للألم. في مجموعة «بيكيا عشاق»، كتبت شعراً وتأملاً وكلاماً في جمل بسيطة، عبرت في وجهة نظري أصدق تعبير عن الجو الشعري الخاص بوضحى المسجن، حيث الصور الحافلة بالفكري والشعوري في آن واحد،، هل أنا على صواب فيما ذهبت إليه؟- (بيكيا عشاق) مجموعتي الثالثة كانت قائمة في جزء منها على مجموعة من القصائد القصيرة، حاولتُ فيها أن أستدعي لحظات ضمن تجربة مررتُ بها، حاولتُ أن أجد اللحظات التي مرت بكل تفاصيلها فربما جاءت الجمل البسيطة بما فيها من تكثيف للغة مساوقةٍ لرغبتي في تكثيف المشاهد والأحداث التي مررت بها عبر اختزالها في لحظات. أما أعمال الفكري والشعوري فهذا لا يجب أن يكون أمراً جديداً فهو ما يجب أن تتوفر عليه كل تجربة شعرية، فالشعر عموماً يتطلب هذا الامتزاج بين الفكري والشعوري، لأن التجربة الشِعرية نتاج تجربة حياتية وفكرية أيضاً أكثر من مجرد رصف للكلمات يجب أن تعكس التجربة المعرفة التي يقدمها الشاعر عبر قصائده.لا أعرف لماذا أكتب؟هناك من يكتب بحثا عما يمكن أن نصفه بأنه سر الحياة، فما دافع وضحى المسجن إلى الكتابة بل إلى إعمال الفكر والشعور؟ - دوافعي مجهولة تماماً، لا أعرف حقاً لماذا أستمر في الكتابة، كتابة الشعر خصوصاً إذا كان ما أكتبه يصلح أن يسمى شعراً، لكن ما أعرفه تماماً أني أتمنى لو كانت الحياة شعرية بما يكفي لأتوقف عن كتابة الشعر. كيف لك أن تقنعني قارئك أنك تكتبين للحياة والأمل وليس للموت؛ مع كل هذا الألم الذي يشيع في نصوصك؟ - لا أريد أن أقنعه، الشعر لم يعد وسيلة للإقنــاع، وقارئ الشعر يدرك ذلك، الكتابــة عن المؤلم والمخيف والموجع ليست عملاً ضد الحياة ليس ضد الانفتاح على مباهجها أيضاً، على العكس إنه يخبر الآخر دائماً أن ثمة ما يولد وينمو ويتجدد وسط خراب العالم وموته، ثمة من يحلم أن ينجو من غرق محتم ولو عبر قشة الكتابة.