بقلم - د. أشرف محمد كشك:أثار القرار الذي اتخذته كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين بسحب سفرائهم من قطر «5 مارس 2014» الكثير من الجدل، حيث تجاوز العديد من الكتاب والمحللين مسألة تفسير ما حدث بشأن الخفي والمعلن من أسبابٍ إلى الحديث عن مستقبل مجلس التعاون ذاته ككيان يضم دولاً، ما يجمعها أكثر مما يفرقها، بل روجت رؤى أخرى لفكرة تكوين تحالف جديد يضم كلاً من السعودية والبحرين والإمارات والكويت إضافةً إلى مصر والأردن. وبعيداً عن أسباب ذلك القرار التي أسهب الكثيرون فيها -حيث إن البيان الصادر عن الدول الثلاث قد أوضح تلك الأسباب وخلفياتها- لاتزال هناك تساؤلات ثلاثة تستقطب اهتمامات الرأي العام في دول مجلس التعاون الأول: هل تعني تلك الأزمة إخفاق مجلس التعاون في تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها؟ والثاني: ما هي الضرورات الاستراتيجية لتطوير مجلس التعاون في الوقت الراهن؟ والثالث: كيف يمكن تطوير مجلس التعاون؟وبالنسبة للإجابة عن التساؤل الأول، فإنه بالعودة إلى ظروف قيام مجلس التعاون عام 1981، فعلى الرغم من وجود تحولات إقليمية ودولية مثلت تهديداً للدول الخليجية الست آنذاك، ابتداءً بالانسحاب البريطاني من المنطقة وما أحدثه من فراغ استراتيجي، ومروراً بنجاح الثورة الإيرانية التي أعلنت شعارات كانت موجهة بالدرجة الأولى للدول الخليجية، ووصولاً إلى المناخ العربي بعد اتفاقية كامب ديفيد، الأمر الذي حتم وجود كيان خليجي جماعي، لحماية تلك الدول من الأيديولوجيات التي كانت سائدة آنذاك، فضلاً عن تأجج الحرب الباردة والتي بلغت ذروتها بالاحتلال السوفيتي لأفغانستان عام 1979، ومن ثم دخول دول الخليج ضمن مناطق المواجهة، فإن تلك العوامل لم تكن الأسباب الرئيسة لقيام المجلس، وإنما اقتناع قادته بالفكرة ذاتها، تعززها قناعات شعبية بأهمية وجود كيان جماعي خليجي يستهدف في النهاية تحقيق الوحدة الخليجية المنشودة. وقد انعكس ذلك بوضوح سواء في ديباجة الميثاق المنشئ للمجلس حيث جاء فيها «إدراكاً منها لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيماناً بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، واقتناعاً بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية، واستكمالاً لما بدأته من جهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها، وتحقق طموحاتها نحو مستقبل أفضل، وصولاً إلى وحدة دولها»، فضلاً عما أشارت إليه المادة الرابعة من الميثاق إلى الوحدة، حيث جاء فيها «تتمثل أهداف مجلس التعاون الأساسية في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولاً إلى وحدتها»، إلا أن مجلس التعاون لم يكن يعمل في فراغ، بل إن هناك تطورات إقليمية ودولية كان لها تأثير على أدائه ومواقفه، فقد شهد المجلس حروباً ثلاثة، وهي العراقية - الإيرانية التي دارت رحاها لسنوات ثمانٍ، ثم الغزو العراقي لدولة الكويت عام 1990، فالغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تلك التحولات الجذرية وما ترتب عليها من نتائج جوهرية، سواء على صعيد توازن القوى الإقليمي أو على الجانب الاقتصادي، حيث مثلت تلك الحروب استنزافاً لموارد الدول الخليجية الست، إلا أن بقاء المجلس بحد ذاته يعد دليلاً على وجود إرادة حقيقية للحفاظ على ذلك التجمع الإقليمي، بل والسعي لتطويره، وتكفي الإشارة إلى أمور ثلاثة، أولها: أن تلك الأزمات لم تحل دون انعقاد اجتماعات المجلس منذ إنشائه وحتى الآن على المستويين الرئاسي والوزاري. وثانيها: حرص قادة المجلس على تطويره، وتمثل ذلك في أمرين الأول: استحداث آلية القمم التشاورية السنوية، وهي لا تسبقها بروتوكولات أو دعوات رسمية، مما يجعلها آلية مهمة للتشاور بين دول المجلس، والثاني: إنشاء الهيئة الاستشارية عام 1996 وهي مكونة من ثلاثين عضواً من الدول الست من ذوي الكفاءات في المجالات كافة، وتختص بدراسة التحديات التي تواجه دول المجلس وإعداد تقارير متخصصة بشأنها تعرض على القمم السنوية. والثالث: المنجزات الاقتصادية والأمنية والدفاعية التي توافق عليها الدول الأعضاء.ومع التسليم بأهمية ما سبق، فإن هناك ضرورات استراتيجية تحتم ليس فقط استمرار مجلس التعاون بل تطويره، يأتي في مقدمتها المشهد الإقليمي والعربي المضطرب في ظل وجود عدة حقائق الأولى: إمكانية توصل إيران والدول الغربية لاتفاق شامل لن يقتصر على القضية النووية، بما يتعين معه أن يكون لدى دول مجلس التعاون ثقلٌ تفاوضي مؤثرٌ، سواء بالنظر إلى إمكاناتها الاقتصادية الهائلة، أو الدور المهم الذي لعبته دول المجلس تجاه الأزمات العربية، وبخاصة في كل من ليبيا واليمن، والثانية: حالة عدم الاستقرار في العراق، ولعل أبرز مؤشراتها تصريحات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي تجاه المملكة العربية السعودية والتي استنكرتها دول المجلس، ناهيك عن مستقبل اليمن في ضوء قرار التحول نحو تجربة الأقاليم الستة، والثالثة: التحولات العربية والتي ترتب عليها تغير المعادلة الإقليمية، وبخاصة انحسار أدوار الدول المحورية، بما يعني تهديد العمق الاستراتيجي للدول الخليجية، ناهيك عن المشهد الدولي وأبرز ملامحه السياسة الدفاعية الجديدة للولايات المتحدة والتي سيكون جل تركيزها صوب آسيا، صحيح أن أمن الخليج سيظل إحدى أولويات الولايات المتحدة، إلا أن هناك تساؤلين منطقيين، الأول: في ظل ما تعانيه الولايات المتحدة من أزمة اقتصادية غير مسبوقة هل سيكون بمقدورها التدخل في الأزمات الإقليمية مستقبلاً؟ والثاني: ما هو الحد الفاصل في التحالفات الاستراتيجية للولايات المتحدة مع دول مجلس التعاون، والانفتاح الأمريكي على إيران؟ فضلاً عن سيادة أجواء الحرب الباردة والتي -من وجهة نظري- أدت إلى الحد من هامش المناورة أمام دول المنطقة عموماً، وتنهض الأزمة السورية دليلاً على ذلك.وعلى الرغم من سيادة قناعة خليجية على المستويين الرسمي والشعبي بضرورة، بل بحتمية تطوير مجلس التعاون، بيد أن التساؤل هو في أي اتجاه يكون ذلك التطوير؟ هل في آليات العمل الخليجي ذاته؟ أم إيجاد صيغ تعاونية بين المجلس والدول العربية المهمة؟ والواقع أن ثمة ضرورة للأمرين، فالمشكلة لا تكمن في التنظيمات الإقليمية، لأنها ببساطة ليست سوى حاصل جمع إرادات وسياسات أعضائها، وفي الوقت ذاته لا يمكن اعتبارها سلطة تعلو على سلطات الدول الأعضاء. ومن المقترحات في هذا الشأن تفعيل بعض آليات عمل المجلس، وبخاصةٍ كل من آلية فض المنازعات، حيث نص النظام الأساسي لمجلس التعاون على ذلك في المادة العاشرة على أن «يكون لمجلس التعاون هيئة تسمى هيئة تسوية المنازعات وتتبع المجلس الأعلى»، فضلاً عن تطوير دور الهيئة الاستشارية العليا، واستحداث ما يلزم من آليات لتطوير مجلس التعاون للتحول نحو صيغة أكثر تكاملاً في محاولة لتجاوز الخطأ الاستراتيجي الذي قامت عليه أغلب التجارب الوحدوية العربية، وهي الانتقال من المقدمات إلى النتائج دون الحديث عن آليات فاعلة لذلك التحول.ومع أنه لكل تجربة خصوصيتها فإن هناك آليات عديدة يمكن الأخذ بها ضمن جهود تطوير مجلس التعاون، وليس بالضرورة تطبيق نموذج الاتحاد الأوروبي أو الآسيان أو حلف الناتو، وإنما تلك التجارب بها دروس مستفادة يمكن لدول المجلس الاسترشاد بها، وبخاصة فيما يتعلق بمسألتي التصويت وتسوية المنازعات.من ناحية أخرى فإن هناك حاجة لتأسيس صيغ لعلاقات المجلس الإقليمية التي تحقق مفهوم التوازن الاستراتيجي من ناحية، وتحافظ على الهوية الخليجية للمجلس من ناحية أخرى، ومن ذلك صيغة «6+1» بين المجلس واليمن، باعتباره عمقاً استراتيجياً بالغ الأهمية لأمن الدول الخليجية، أو صيغة «6+2» بين المجلس وكل من مصر والأردن، ويقدم حلف «الناتو» نموذجاً مهماً في هذا الشأن، حيث تم تأسيس مجلس الناتو - روسيا عام 2002 كآلية دائمة للتشاور. صحيح أنه يتم تجميد عملها إبان الأزمات بين الجانبين، إلا أنها تظل قائمة.وفي تقديري أنه حال تعثر دول مجلس التعاون نحو استكمال مسيرته، فإن ذلك سيكون مقدمة لتهيئة الأجواء الإقليمية نحو إيجاد صيغ إقليمية، تضم أطرافاً لطالما سعت بشكل حثيث أن تكون جزءاً من منظومة أوسع لن تقتصر على دول المجلس، كما إن مصالحها قد لا تتوافق بالضرورة مع المصالح الاستراتيجية لدول المجلس، منها ما روجت له بعض الكتابات الأكاديمية الغربية «فكرة الناتو الشرق أوسطي» أو ما تم اقتراحه ضمن مؤتمرات رسمية «منظمة الدول المطلة على الخليج للتعاون».إن مجلس التعاون قد واجه فيما سبق اختبارات أشد ضراوة من الأزمة الراهنة، إلا أنه استطاع تجاوزها، ومن ثم فإن الضرورات الاستراتيجية الراهنة تتطلب من أعضائه إيجاد طريق ثالث بين أن يبقى كمجرد رمز لدول تتشابه على مستويات عديدة، أو أن يتجمد، وفي رأيي إن أحد أهم أسس ذلك التطوير هو تطوير قاعدة التزام حقيقي بشأن القضايا التي لا يجوز الخلاف بشأنها.* باحث في مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة