كتب - أمين صالح:بيير باولو بازوليني Pier Paolo Pasolini كان، على الأرجح، من أكثر الشخصيات إثارة للجدل والخلاف في الحياة الإيطالية الثقافية والسياسية.بعد بروزه كشاعر في البلدة التي وُلد فيها سنة 1922، كاسارسا ديل ديليزي، وهي بلدة إيطالية صغيرة تقع في إقليم فريولي، انتقل إلى روما واستقر فيها. وهناك أحرز شهرة واسعة: كشاعر أولاً، ثم كروائي، وكاتب سيناريو، وكاتب مسرحي، وكاتب مقالات، ومخرج سينمائي، وممثل، ورسام، وناقد، ومترجم.. حتى لقي مصرعه بوحشية وبشاعة، في ظروف غامضة، في نوفمبر 1975. في روما، نشر أولى رواياته «أبناء الحياة» (1955)، التي أثارت جدلاً واسعاً، ثم رواية «حياة عنيفة» (1959)، وقد سبق له أن فاز بجائزة شعرية في 1957 عن مجموعته الشعرية «رماد جرامشي».بعدها انتقل إلى المجال السينمائي كاتباً للسيناريو في 1954. وفي 1961 أخرج أول أفلامه السينمائية «أكاتونه» Accattone.عندما بدأ بازوليني في ممارسة صنع الأفلام، كان يفتقر إلى المعرفة التقنية السينمائية، ولم تكن له أية دراية بفن الإخراج، مع ذلك فقد كشف عن أسلوب سينمائي متميز لا يتصل بالأدب بل يقترب كثيراً من السينما الخالصة ذات اللغة الخاصة.يقول بازوليني: «جئت إلى الإخراج السينمائي حين بلغت الأربعين. حققت أول أفلامي لأنني ببساطة أردت أن أعبّر عن نفسي من خلال وسط مختلف، وسط لم أكن أعرف عنه شيئاً، والذي كان عليّ أن أتعلم تقنيته بذلك الفيلم الأول. مع كل فيلم كان عليّ أن أتعلم تقنية مختلفة. كنت أحاول دائماً أن أكتشف وسيلة تعبير جديدة».في فيلمه الأول «أكاتونه» يجاور بازوليني الصورة والكتابة أو الأدب، وذلك في المشهد الافتتاحي، حيث يقتبس أربعة أبيات من كتاب دانتي «الكوميديا الإلهية» كمقدمة لتوفير مفتاحٍ لتأويلٍ يجعل أحداث الستينات الخاصة عامة وشاملة، بوضعها جنباً إلى جنب مع أحداث شعرية تنتمي إلى القرن الرابع عشر. إن كتابات بازوليني، وحواره مع الأدب، خصوصاً الشعر، أتاح له الاقتراب من الحقيقي في دانتي.في عملية المونتاج، كان بازوليني يتجاهل الإيقاعات السردية العادية في سبيل خلق نوع من عدم التوازن الإيقاعي حيث التفاصيل يتم تضخيمها بشكل كبير بينما تُمسّ اللحظات التي تعتبر هامة كلاسيكياً على نحو سريع جداً.يفضل بازوليني، في المونتاج، اللجوء إلى القطع المفاجئ، حيث الانتقال المباشر من لقطات قريبة إلى لقطات عامة، أو من لقطة قريبة إلى أخرى قريبة. هذه الوسيلة تعمل على تشظية السرد عبر الزمان والمكان، المعلوم والمجهول، الأسطورة والخيال.بازوليني كان واحداً من المنظرين السينمائيين الذين حاولوا في الستينات تحديد طبيعة لغة الفيلم أو اللغة السينمائية. وكان الأكثر نشاطاً وفعالية في هذا المجال. في مهرجان بيزارو السينمائي، العام 1965، قدّم بحثاً عن السينما الشعرية، يستنطق فيه جوهر اللغة السينمائية وطبيعتها، كما أثار البحث اهتماماً بالمفاهيم السيميولوجية.انتقد بازوليني الواقعية الجديدة، على الرغم من ابتكاراتها ونواياها الطيبة، على أساس أنها لم تكن راغبة، أو كانت عاجزة عن، خلق لغة جديدة. وقال: «أفلامي لا تحتوي على لحظات وثائقية أو غنائية، تلك التي تشكّل الجانب الأهم في أفلام الواقعية الجديدة».وعن منهجه قال: «سينماي تتألف من عناصر، من مادة مستعارة من قطاعات ثقافية مختلفة: من اللهجات المحلية، الأشعار الشعبية، الموسيقى الشعبية أو الكلاسيكية، المراجع والإحالات إلى الفن التصويري وفن العمارة. أنا لا أزعم خلق أو فرض أسلوب. ما يخلق العجينة الأسلوبية لدي هو نوع من التوهج، الشغف الذي يدفعني إلى مصادرة أي مادة، أية صيغة تبدو لي ضرورية لتنظيم فيلم ما». من مقالة للباحث كيث هنيسي براون عن بازوليني والسينما الشعرية، نقتبس بتصرّف:حاول المخرج والشاعر الإيطالي بيير باولو بازوليني إظهار أن اللغة السينمائية تختلف عن نظيرتها الطبيعية في كون وحدتها الأساسية ذات حضور سابق في العالم، وفي الواقع. انطلاقاً من هذا، هو يستنتج أن اللغة السينمائية كانت، على نحو متأصل، لا عقلانية وغير منطقية. لم يكن هناك أي معجم للصور ولا أي مجموعة من القوانين والقواعد التي بها يمكن تقييم الحالة المنطبقة على قواعد اللغة لأي قول سينمائي. لكن في التطبيق، هذا الاحتمال التعبيري سرعان ما تم كبح جماحه مع بزوغ السينما الهوليوودية المهيمنة، أو ما أشار إليها بازوليني بوصفها «سينما النثر». لقد فهموا السينما على أساس أنها مجال لرواية القصص بطريقة لا تلفت الانتباه إلى طبيعتها الاعتباطية، المركّبة. لكن حتى هنا، ثمة احتمالات أخرى لازمت الشاشة وتمكنت من إظهار نفسها. أفلام هوليوود نفسها أجازت لحظات من المشهدية واللاسرد والإفراط، كما في المشاهد الاستعراضية في الأفلام الغنائية والاستعراضية.