كتب - جعفر الديري: «كانت جزر البحرين على مدى قرون طويلة، ولاتزال تمثل متحفاً حياً يتم فيها المحافظة بصورة طبيعية على الآثار القديمة وبقايا الحضارات السالفة. فهناك أكثر من 100 ألف من تلال المقابر التي تغطي سطح الأرض في مختلف مناطق البحرين منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، فيما تمت حماية بقايا المعابد التي ظلت حتى الفترة الأخيرة مخفية تحت الرمال. ولم يتم اكتشاف مدى قدم وأهمية هذا التراث الأثري الغني للبحرين حتى الآونة الأخيرة. «وتتمتع البحرين بإرث حضاري وتاريخي هام حيث كانت مهداً للحضارات القديمة ونقطة اتصال بين طرق التجارة القديمة بين الشرق والغرب. ومن الطبيعي أن يتمازج سكان البحرين قديماً مع غيرهم من شعوب الحضارات الأخرى، وكان من نتيجة ذلك الاختلاط أن قدمت إلى البحرين عدة طوائف وشعوب من الأمم التي خلفت وراءها آثاراً متباينة غمر التاريخ بين طياته العديد منها، والقليل الذي بقي طمسته الأتربة والتغيرات التي حدثت في منطقة الخليج».المواقع الأثرية في البحرينحول هذه المواقع الأثرية في البحرين، وما تتعرض له من عوامل تؤدي إلى إتلافها، بالإضافة إلى مظاهر هذا التلف البشري وسبل صيانتها لضمان استمرار بقائها، قدم الباحث البحريني سلمان المحاري، كتابه «المواقع الأثرية في مملكة البحرين، المشاكل والتحديات»، موضحاً فيه أن الآثار لم تعد فقط تحكي قصصاً عن الماضي وإنما أصبحت مورداً اقتصادياً هاماً لمعظم البلدان الغنية بالآثار، كان من اللازم إجراء دراسة علمية تحفظ لهذه المواقع قيمتها التاريخية والجمالية، وتصونها ضد أي خطر يهدد سلامتها وبقاءها، واختبار أفضل مواد الترميم المناسبة، إلى جانب وضع خطة لتطوير المواقع الأثرية وإعدادها سياحياً، وإيصال مفهوم صيانة الآثار إلى جميع فئات المجتمع.وقال المحاري: إن البحرين تتمتع بتراث أثري، يتمثل في المواقع الأثرية المنتشرة في جميع مناطق البحرين، وبالخصوص في المناطق الشمالية والغربية وأيضاً الوسطى. وتتنوع هذه المواقع ما بين مدن ومستوطنات قديمة ومعابد ومساجد وقلاع وعيون ماء وغيرها. ومن الأمثلة لهذه المواقع هو موقع قلعة البحرين والذي هو موقع تراث عالمي يمتلك قيمة عالمية استثنائية جعلته على قائمة التراث العالمي في منظمة اليونسكو، نظراً لكونه كتاباً يمكن من خلاله قراءة وتتبع جميع الفترات التاريخية التي مرت بالبحرين والمنطقة المحيطة بها.دراسة أثرية وجيولوجيةيقع كتاب المحاري في 458 صفحة من الحجم الكبير، ويشتمل على أربعة أبواب، الأول منها، عبارة عن دراسة أثرية وجيولوجية للبحرين وموقع سار الأثري، تتناول فصوله الثلاثة؛ جغرافية وتاريخ البحرين، وما شهدته من فترة العصور الحجرية، وفترة دلمون، وفترة تايلوس، والفترة الإسلامية، ويبرز هذا الفصل المواقع الأثرية في البحرين.أما «الباب الثاني»، فيتعلق بمظاهر وعوامل تلف أطلال المواقع الأثرية في البحرين، ويبرز الفصل الأول عوامل التلف الفيزيوكيميائية، وهي تنقسم إلى 5 أقسام، الأول بتأثير الحرارة، وثانياً بتأثير الرطوبة، وثالثاً بتأثير الرياح، ورابعاً بتأثير الأملاح، وخامساً بتأثير غازات التلوث الجوي، كغاز ثاني أكسيد الكربون، ومركبات النتروجين وغيرها، ويتحدث الفصل الثاني عن عوامل التلف البيولوجية والبشرية، وهي على قسمين، أولاً التلف البيولوجي، ويقع تحت أربعة تأثيرات: الحيوانات، الطيور، النباتات، وتأثير الكائنات الحية الدقيقة مثل البكتيريا والفطريات والطحالب. وثانياً .. التلف البشري. وينقسم أيضاً إلى عدة أقسام كأعمال الترميم، ودور الآثاريين في التلف، وتأثير النشاط السياحي، وتأثير الزوار على المواقع، وأعمال عدوانية وتخريبية متعمدة. ويبحث «الباب الثالث» موضوع صيانة وترميم وأطلال المواقع الأثرية، وينقسم هذا الباب إلى أربعة فصول: يتحدث الأول عن صيانة وترميم أطلال المواقع الأثرية، ويبرز الثاني موضوع الصيانة غير المباشرة لأطلال المواقع الأثرية، والفصل الثالث تطوير وإعداد مكونات المواقع الأثرية للزيارة، ويختص الباب الرابع، بالفحوص والتحاليل والتجارب المعملية لاختيار مواد الترميم، وينقسم إلى فصلين، أما الباب الخامس فيطرح «خطة صيانة وتطوير وأطلال موقع سار الثري». موقع سار الأثريمن المواقع الأثرية التي درسها المحاري، موقع سار الأثري، ويقع في الجهة الجنوبية من منطقة سار وهو محصور ما بين سار من الشمال وشارع الشيخ عيسى بن سلمان (المتصل بجسر الملك فهد) من الجنوب. ولهذا الموقع أهمية تاريخية كبيرة جداً لما يحويه من آثار هامة تمتد حوالي أربعة آلاف سنة تقريباً، وتتمثل هذه الآثار في مقبرة متميزة وفريدة ولا يوجد مشابه لها في البحرين أو منطقة الخليج إذ هي عبارة عن مجموعة من المدافن تحيط بها جدران قوسية متشابكة تشكل سلسلة من الحلقات المتداخلة والمتصلة مع بعضها البعض بشكل دقيق ومنتظم، حيث توجد في البحرين، أكبر مقبرة تاريخية بالعالم وهي على شكل روابي (تلال) مختلفة الحجم والشكل، توجد بمنطقة عالي بالمحافظة الوسطى، لها تاريخ عريق قديم منذ عهد حضارة دلمون، حيث كان الدلمونيون يدفنون موتاهم في تلك التلال وهي (قبور) ويدفنون معهم حاجياتهم النفيسة والثمينة، كما يدفنون معهم جِـِراب الماء الفخارية، والمقتنيات الثمينة، ظناً منهم واعتقاداً أن هذا الميت قد يعود للحياة في أي لحظة. ويضم موقع سار مدينة دلمونية تعود لحوالي 2000 ق.م التي شهدت تطور حضارة الإنسان في البحرين، كما إنها نموذج متكامل للمدينة إذ إنها تضم معبداً يعود لفترة دلمون وآخر يعود لفترة تايلوس ومجموعة من المساكن والدكاكين والشوارع الواسعة الرئيسة والممرات الضيقة التي ما بين البيوت وبئرين ماء. ولقد عثر أثناء التنقيب على مجموعة من اللقى الأثرية التي كانت تستخدم في تلك الفترة ومن أهمها الأختام الدلمونية والأواني الفخارية، والأوزان الحجرية والأصداف البحرية، والحلي البرونزية، اللؤلؤ وبقايا عظام الأسماك والحيوان وبعض بذور الحبوب والخرز المصنوع من الأحجار الكريمة وغيرها.لقد بدأت العام 1977 بعثة جامعة الدول العربية برئاسة البروفيسور الأردني معاوية إبراهيم التنقيب في موقع سار الأثري، حيث تم الكشف عن موقع أثري كبير، يتكون من حقل ضخم من القبور، إضافة إلى مستوطنة تضم عدداً كبيراً من المنازل يتوسطها معبد، وقد استمر التنقيب في الموقع عدة سنوات من قبل بعثات محلية وعربية وأجنبية حتى تم الكشف عن الكثير من معالمه. وتعود أصول المستوطنة إلى عام 2300ق.م حيث كانت المستوطنة صغيرة وبسيطة ومن دون معبد، وفي حدود 1900ق.م تم إعادة بناء المستوطنة بشكلها الحالي وتم بناء المعبد فيها. بناء المنازل على شكل Lيذكر الباحث علي السلاطنة أن منازل المستوطنة بنيت بالأحجار الجيرية، وكلها تقريباً بنفس الطراز. حيث بنيت على شكل حرف L ، وتضمن المنزل غرفة داخلية، ويعتقد العلماء أن الغرفة الداخلية كانت مسقفة بسقف مصنوع من منتجات النخل، بينما لا توجد آثار تسقيف لبقية المنزل، وفي الممر يوجد حوض للغسيل ممسوح بالجص، وفي أكثر المنازل بابين صغيرين، أحدهما مطل على الشارع الرئيس، والآخر باب خلفي للمنزل.وفي وسط المستوطنة، في المكان الأكثر ارتفاعاً فيها، وعلى الشارع الرئيس يقع معبد سار الأثري المتميز في بنائه، فهو على شكل شبه منحرف، وهو مبني بالحجارة الجيرية الصغيرة، خلافاً للصخور الرملية الضخمة المقطوعة بعناية التي استخدمت في بناء قلعة البحرين ومعبد باربار، ومسجد الخميس.للمعبد باب صغير في الجهة الشرقية، وهو مطل على الشارع الأساسي للمستوطنة ويقابل هذا الباب في الخارج عمودان مستطيلان ضخمان، وفي الداخل ثلاثة أعمدة في الوسط. على الحائط الشمالي مقاعد للمشاركين في الطقوس الدينية، ويقابله على الحائط الجنوبي المذبح الذي تقدم فيه القرابين للآلهة، كما إن هناك مذبحاً آخر بنفس التصميم على العمود الأوسط، وتوجد غرفة جانبية في الجهة الشمالية الغربية من المعبد. وكانت جدران المعبد مطلية بالجبس، وهناك ما يدل على أنه كان مسقفاً بالسعف أو الحصر، إلا أننا لا نعرف على وجه الدقة طبيعة الطقوس العبادية التي كانت تؤدى داخل هذا المعبد، ولا الإله الذي خصص هذا المعبد لعبادته.تعـددت تفسيرات المذبح وتتعدد التفسيرات التي قدمها العلماء لشكل المذبح الداخلي الذي يحتوي على قوسين، فمنهم من يعتقد بأنهما على شكل قرني ثور، ومنهم من يعتقد بأنهما على شكل قمر (هلال) وأن المعبد مخصص لعبادة الإله «سين» إله القمر، وفيما يتعلق بوجود مذبحين في المعبد، فهناك من يرى أنه قد يدل على كثرة القرابين المقدمة للآلهة، أو أنه يدل على عبادة أكثر من إله في هذا المعبد.كذلك اختلف العلماء في تفسير وظيفة الغرفة الداخلية للمعبد، فمنهم من يعتقد أنها مجرد غرفة لتخزين أدوات وأغراض المعبد، ومنهم من يعتقد أنها مرصد فلكي بني بعناية خاصة وبمعرفة فلكية عميقة لرصد تحركات الشمس، وبذلك يمكن أن نقول إن هذا المعبد مخصص لعبادة الإله «أوتو» إله الشمس.ويقول الآثاري السعودي د.نبيل الشيخ إن ظروف الحياة في دلمون المعتمدة أساساً على التجارة والزراعة والصيد قد مهدت لظهور المتطلبات الأساسية لحساب الزمن، حتى تمكن كهنة دلمون في تطوير مفاهيمهم البسيطة إلى ابتكار تقويم شمسي مكون من 365 يوماً، وهي المدة التي يستغرقها الانقلاب الشمسي أو اكتمال دوران الكرة الأرضية حول الشمس، ولا عجب أن يكتشف هذا المعبد في قرية سار، فسار في اللغة القديمة تعني السنة أو الدورة.الانقلاب الصيفيلقد شيد المعبد بناء على هذه الحسابات لرصد ظاهرة الانقلاب الصيفي (21 يونيو من كل سنة) حيث تتعامد الشمس وقت الغروب على زاوية الرصد الكائنة في الغرفة الشمالية الغربية للمعبد، وعند تعامد الشمس يعلن الكهنة بدء العام الجديد، وبهذا يكون شعب دلمون من أوائل الشعوب التي عرفت التقويم الشمسي في العالم القديم وهو تقويم دقيق جداً، ونسبة الخطأ فيه بسيطة وقابلة للتصحيح بزيادة يوم في السنة كل أربع سنوات كما هو معمول به حالياً في شهر فبراير.ويدعم هذه النظرية وجود العديد من الأختام الدلمونية التي تتضمن رموزاً تمجد إله الشمس، أوتو، إلا أن وجود محرابين في المعبد يمكن أن يفيد بأنه مخصص لعبادة إلهي الشمس والقمر، إلا أن هذا الافتراض بحاجة إلى البحث من قبل خبراء الآثار لإثبات صحته من عدمها.وفي جانب آخر، من موقع سار الأثري تقع المدافن الأثرية المتشابكة، وهي لأهالي المستوطنة، هذه المدافن فريدة من نوعها كونها تتشابك فيما بينها كخلية النحل، وتبنى هذه الشبكات من القبور على شكل أقواس دائرية تحوط قبراً مهماً لملك أو لشخص من علية القوم، بحيث يبنى كل قبر على جدار القبر السابق، وبذلك تكون كل القبور متشابكة، وهذه القبور هي لعامة الناس بينما قبور علية القوم تتخذ شكلاً فخماً متميزاً عن بقية القبور.يتكون القبر من حجرة الدفن الواسعة نسبياً والعميقة، حيث يدفن الميت وهو جالس القرفصاء، وبداخل الحجرة فجوة جانبية يحتفظ فيها الميت بأدواته التي تدفن معه ليستعين بها على الحياة عندما يبعث في الحياة الآخرة، ويملأ القبر بالرمل الناعم ثم يغلق بعدد من الحجارة الضخمة.