كتب - جعفر الديري: البيت عند زاوية الحي يعرفه الجميع. إنه لأرملة عجوز طيبة معروفة بحسن الخلق. فارقها زوجها وطفلها مازال صبياً. وهو بيت لا تقع العين فيه على أي شيء مرتفع الثمن يسول السرقة. البيت على عهده، هادئ ساكن، لذا لم يشعر الشاب بأي شيء مختلف، رغم أنه يراه للمرة الأولى بعد غياب عامين كاملين. فتح الباب بتؤدة بعد منتصف الليل، فطالعه الممر الطويل المفضي إلى الباب الداخلي، في ما تقوم غرفتان متقابلتان كانت إحداهما غرفته أما الثانية فتنام فيها أمه. ورغم طبعه الجاف أحس برغبة جارفة في البكاء، ورغم تصلبه لم يستطع كبح دموعه. كان «حوش» البيت معرضاً لذكريات جميلة، كان يعيش فيها سعيداً. ولم يكن هناك ما يدعوه إلى الخروج عن طوق الأسرة، غير أن رفقاء السوء لم يتركوه، وسرعان ما تعثرت قدمه بمسالك وعرة، كانت نتيجتها أن عد من أهل السوابق! هو يشعر برغبة عظيمة للقاء أمه، لكنه يخشى هذا اللقاء، ولايزال يتذكر آخر لقاء بينهما حين تركهما الشرطي لوحدهما، مصوباً له نظرة تأنيب أن ترك أمه المريضة تعاني ما تعانيه لكي تراه. ألقى بنفسه في حضنها، لكنها تمالكت نفسها، محذرة إياه من غضبها. وطوال عامين لم تزره ولم تسأل عنه حتى. لكنه عاقد العزم هذه المرة على التوبة ولابد من رؤيتها والتمرغ على رجليها حتى تغفر له. فتح باب الغرفة، ووصل إلى سمعه صوت أمه وهي تسبح الله تعالى. كانت على سجادة الصلاة تحرك حبات المسبحة بهدوء. هم بأن يقذف بنفسه عليها، لكنه تراجع، وخرج صوته مختنقاً بعبرته.. - كيف أنت أمي؟ لم تنطق بكلمة ولم تلقِ إليه بالاً. أعاد السؤال فلم تلتفت إليه. طالعها بعينين حولهما السهر إلى بركتين جافتين من الماء.. - أمازلت غاضبة مني؟ أقسم أني جئتك تائباً. لكن أمه لاتزال في تسبيحها.. - ألم يخبروك أني سأخرج من السجن هذا اليوم؟ ألم تشتاقي للقاء ولدك؟ لكن أمه لم ترد. ألقى بنفسه على قدميها منتحباً، فانتبهت وبدأت بالتلفت يميناً وشمالاً وهي تصيح: - أم جاسم، أم جاسم.دخلت امرأة مسنة الغرفة فزعة واحتضنت العجوز. التفتت إليه فوجدته مسنداً ظهره إلى الجدار، تكاد عيناه تخرجان من حدقتيهما. عرفته على الفور فطالعته بعينين غاضبتين. - منذ متى؟- منذ آخر مرة زارتك فيها، رجعت إلى البيت كما تراها، لا ترى ولا تسمع. سقط إلى الأرض في إعياء، وأخذ في البكاء، كأشد ما يكون.