قال علماء ودعاة إن «التنافس في مرضاة الله درب المؤمنين للجنة»، محذرين من «التنافس على أمور دنيوية تؤدي إلى الحقد والحسد والبغضاء». وأضافوا أن «المؤمن عالي الهمة لا يقنع بالدون، فهو متطلع دائماً إلى الأكمل والأحسن، يستشعر أنه في ميدان سباق، فيأخذ أهبته، ويعد عدته، ويشمر عن ساعد الجد والاجتهاد، حتى يصل إلى مطلوبه فيكون من السابقين، يقول الله تعالى: «والسابقون السابقون أولئك المقربون»».من جانبه، قال الشيخ عبداللطيف الغامدي «إن الله أنزل فيما أنزل على عبده محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم»، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن نادى في أصحابه ومن حوله، أن هلموا إلى الإنفاق في سبيل الله، فتسابق أصحاب الرسول إلى التنافس في الخير، والعمل الصالح، وهذه عاداتهم في كل حال، فالصحابي الغني جاء بالمال الكثير، والصحابي الفقير جاء بالمال اليسير، وكان في القوم من لا يستطيعون لا هذا ولا ذاك، ومنهم من عاد إلى بيته، مثقل الخطى، أسيف القلب، كليم الفؤاد، منهم صحابي يدعى علبة بن زيد، رضي الله عنه، الذي حزن عندما وجد الصحابة يتسابقون إلى الخيرات، ويتنافسون في الطاعات، بالإنفاق في سبيل الله وهو لا يملك ما يجعله يدخل تلك المنافسة».وتابع الشيخ الغامدي «قام الصحابي علبة بن زيد رضي الله عنه في ظلمة الليل يناجي ربه وهو يبكي ويقول «اللهم إنك لم تجعل في يدي رسول الله ما يحملني عليه، ولم تجعل في يدي ما أتصدق به، اللهم إني لا أملك إلا عرضي، اللهم من تعرض لي في جسدي أو مالي أو ولدي أو عرضي فاجعل ذلك صدقة مني عليه»، ثم ذهب علبة إلى مجلس الرسول، وبعد أن فرع الرسول من صلاته، سأل الصحابة ثلاث مرات، من تصدق منكم الليلة بصدقة، فلم يجبه أحد، فقال الرسول: قم يا علبة فقل ما قلت: فردد علبة الدعاء الذي دعا به ربه ليلاً، فاستنار وجه الرسول ثم قال: «بخ بخ، والذي نفس محمد بيده، لقد كتبت في الزكاة المتقبلة»».ودعا الغامدي «المؤمنين والمؤمنات إلى غسل قلوبهم بالأعمال الصالحة طاعة لله، من الأحقاد والضغائن، فالمؤمن مخموم القلب، ذلك المرء التقي النقي، الذي لا يحمل في قلبه لا الإثم، ولا البغي، ولا الحقد، ولا الغل، ولا الحسد، فمن كان له قلب كهذا، فليبشر بالخير الكثير من الله العلي الكبير». وقد ربى الإسلام أبناءه على استشعار هذا المعنى في أمر الآخرة، حتى جعل الفرد المسلم يتطلع إلى أن يجعله الله إماماً للمتقين، فقال الله عز وجل عن أولئك النفر من عباده: «والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً». وبالتأمل في أدلة الشرع نجدها حين نتحدث عن الآخرة تدعو صراحة إلى المنافسة والمسارعة والمسابقة والسعي، وحين تتكلم عن الدنيا تدعو صراحة إلى الانتشار في الأرض، وعدم التكالب أو التنافس في طلب هذه الدنيا، ومن هذه الآيات قوله تعالى: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين». وقوله تعالى بعد أن وصف شيئاً من نعيم الجنة: «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون»، وقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون». أما نصوص السنة فكثيرة أيضاً، ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالاً فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان فعملت مثل ما يعمل».يقول ابن حجر رحمه الله: «أما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وأطلق الحسد عليها مجازاً، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لغيره من غير أن يزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة فإن كان في الطاعة فهو محمود».ومن صور ذلك التنافس الشريف، المسابقة إلى صور من العبادة قد لا يصبر عليها إلا السابقون، كالآذان والصف الأول، والتبكير إلى الصلوات، قال صلى الله عليه وسلم: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا، ولو يعلمون ما في التهجيز لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً». بل علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته المبادرة والمسارعة في أمور الآخرة فقال: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم...». وقال عليه الصلاة والسلام: «التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة».من جهته، قال الشيخ الدكتور عبدالوهاب الطريري «لقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الدرس فكانوا يتنافسون فيما بينهم في مرضاة الله تعالى، فحين طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة أن يتصدقوا قال عمر رضي الله عنه: ووافق ذلك عندي مالاً فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أبقيت لأهلك؟» قلت: مثله. وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: «يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟»، فقال: أبقيت لهم الله ورسوله. عندئذ قال عمر: لا أسبقه إلى شيء أبداً».وتابع الشيخ الطريري «وفي يوم آخر يستمع الرجلان -أبو بكر وعمر- إلى ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم على قراءة ابن مسعود بقوله «من سره أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه من ابن أم عبد». فبادر عمر ليلاً لينقل البشرى لابن مسعود، فقال ابن مسعود: ما جاء بك هذه الساعة؟ قال عمر: جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ابن مسعود: قد سبقك أبو بكر رضي الله عنه. قال عمر: إن يفعل فإنه سباق بالخيرات، ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليه أبو بكر».ورأى العلماء أن «هناك فرقاً كبيراً بين المنافسة المحمودة في أمر الآخرة، وبين المنافسة في حطام الدنيا ومتاعها الفاني، وهذا الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم»».وهذا التنافس على الدنيا هو الذي يؤدي إلى الحسد، وهو ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته إذا فتحت فارس والروم فقال: «تتنافسون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون ...».ولقد فقه السلف الصالح هذا المعنى فكان تنافسهم في أمر الآخرة، أما الدنيا عندهم فكانت لا تساوي شيئاً، يقول الحسن بن علي رضي الله عنه: «والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا، أو ذهبت إلى ذا». وقال أيضاً: «من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره».وأحسن من ذلك ما وجه إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: «انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم».أما إذا كان التنافس في الدنيا من أجل إحراز سبق أو كفاية يستغني بها المسلمون، كابتكار علمي، أو سبق اقتصادي بحيث لا يبقون عالة على أعدائهم مع نية التقرب بذلك إلى الله والطمع في جنته ورضوانه، فذلك حسن ومحمود، لأنه لا يخرج عن أن يكون من عمل الآخرة.