بقلم وزير العمل جميل حميدان:شهد سوق العمل البحريني تحولات جذرية ومتسارعة خلال العقدين الماضيين، تغيرت من خلاله موازين القوى المؤثرة، وأصبحت أكثر اعتماداً على القطاع الخاص كمحرك أساس للنمو الاقتصادي. ولاشك أن هذا «التحول الاستراتيجي» كان له انعكاسات واضحة على سوق العمل، حيث أصبح هذا السوق أكثر ديناميكية وأصبحت الحاجة ملحة لتطوير عملية صناعة القرارات المتعلقة بسوق العمل بما يتماشى مع هذه المستجدات، وبما يضمن سد فجوة بدأت تأخذ في الاتساع بين مخرجات هذه المنظومة والاحتياجات الفعلية لسوق العمل التنافسي، رغم المحاولات المبذولة لتضييق هذه الفجوة.واستدعت هذه الحالة إيلاء مزيد من الاهتمام لرفع كفاءة برامج تخطيط القوى البشرية خلال المرحلة المقبلة، لضمان إمداد سوق العمل بالمهارات والتخصصات اللازمة، ليس في الوقت الحالي فحسب ولكن على امتداد فترات طويلة مقبلة. إن ترك سوق العمل كما هو عليه الآن ليس خياراً، إذ أصبحت الحاجة ماسة للتدخل وبناء مخرجات تواكب متطلبات سوق العمل الحالية والمستقبلية، عبر منهجية ومنظومة متكاملة تعتمد على دقة معلومات سوق العمل، في ظل غياب قاعدة متكاملة تنتج مؤشرات وقراءة واضحة لسوق العمل.والحقيقة أن حجر الأساس في أية محاولة لتخطيط القوى البشرية، هو توفر نظام معلومات متكامل ومتطور عن سوق العمل، وأعني هنا «مشروع المرصد الوطني لسوق العمل»، وهو مشروع تعكف عليه حالياً وزارة العمل بالتعاون مع مجلس التنمية الاقتصادية، وتمت الموافقة عليه من خلال اللجنة العليا لإصلاح التعليم والتدريب برئاسة نائب رئيس الوزراء سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة.وقبل الولوج في تفاصيل المرصد وآلية عمله، لابد لنا من تعريف أو معرفة مفهوم «مرصد سوق العمل»، حيث تعرف منظمة العمل الدولية المرصد «المعلومات المتوفرة عن حجم وتكوين سوق العمل وطريقة عمله، ومشكلات يعاني منها العاملون فيها، وطموحاتهم، والاحتياجات المتعلقة بالتوظيف، والفرص المتاحة فيها».ومن هذا التعريف نوضح أن هناك مفهومين لنظام مراصد سوق العمل، يتعلق الأول بمعلومات سوق العمل بمفهومها الضيق، حيث يقتصر هذا النظام على المعلومات الخاصة بجانبي العرض والطلب على القوى العاملة، أما المفهوم الثاني فيتعلق بنظام معلومات الموارد البشرية بمعناها الأشمل، ولا يقتصر على جانبي العرض والطلب بل يتعداها ليشمل جانبي التعليم والتدريب. وفي البحرين تعتمد فكرة ونشاط المرصد الوطني لسوق العمل على تأسيس آلية عمل وطنية لجمع وتحليل بيانات ومعلومات سوق العمل المتوفرة، ومن ثم إعادة توفيرها لجميع المؤسسات لاستخدامها دون أن يكون هناك تكرار أو ازدواجية في العمل بينه وبين الجهات المنتجة للبيانات والمعلومات.المرصد ليس منتجاً للبيانات ولكنه مستخدم لها، وتحديداً مستخدم ذكي، بمعنى آخر أنه يهتم بتوظيف البيانات المتاحة لدعم القرار في مجال تنمية الموارد البشرية، وحتى حينما يكون هناك نقص في بيانات معينة يكون دور المرصد الأساس هو توجيه اهتمام الجهات المنتجة للبيانات نحو هذه الفجوات في البيانات، والعمل على تغطيتها أو المساهمة في تغطيتها.وتتعدد الجهات المستفيدة من المرصد، مثل أصحاب الأعمال والقطاع الخاص، والباحثين عن عمل، والمؤسسات التعليمية والتدريبية، ومتخذي القرار وصانعي السياسات.وروعي في إنشاء المرصد الاستفادة من التجارب الدولية في بناء آليات كفوءة في تقييم فوائد وملاءمة أنظمة معلومات سوق العمل وقدرتها على إنجاز تدفق شامل ودقيق للبيانات من المنتجين «موفري المعلومة» إلى المستخدمين.وتمثل الدراسات والتقارير والمؤشرات أحد المخرجات الرئيسة للمرصد، حيث تركز هذه الدراسات في المقام الأول على رسم سياسات الموارد البشرية ومؤشرات سوق العمل، ومؤشرات التدريب المهني والتعليم العالي وفي نفس السياق، وسوف يتم اختيار الموضوعات السابقة في ضوء رؤية البحرين 2030 للتنمية الاقتصادية، والموضوعات المثارة في سوق العمل بما يخدم احتياجات متخذ القرار.كما إن تنوع مجالات اهتمام الدراسات والتقارير المزمع أن يعدها المرصد، تؤدي إلى تنوع الفئات المستفيدة منها، فعلى سبيل المثال هناك بعض المخرجات تستهدف القدرات الفنية للجهات المنتجة للبيانات كما هو الحال في الأرقام التحليلية للباحثين عن عمل، أو المخرجات الخاصة بمنظمات المجتمع المدني المعنية بسوق العمل، والدراسات الخاصة بدور النقابات المهنية في تنمية الموارد البشرية في البحرين. ويضاف لكل ما سبق التقارير الرئيسة التي تعطي صورة واضحة وشفافة بشأن العرض والطلب في سوق العمل، من خلال مؤشرات الطلب على الأيدي العاملة والتخصصات الحالية والمستقبلية. والجدير بالتأكيد أن كل هذه المؤشرات والتقارير تتم عبر معالجة البيانات المتاحة أو في بعض الأحيان الاستعانة ببعض المراكز البحثية أو بيوتات الخبرة المتخصصة في حال محدودية الموارد البشرية المتاحة في المرصد. وللتوضيح أكثر حول نوعية المؤشرات المستخدمة والمعبرة عن التوازن بين العرض والطلب، هناك مؤشرات التوظيف والبطالة مثل نسبة مشاركة القوى العاملة، نسبة العاملين إلى السكان، المستوى التعليمي للقوى العاملة، توزيع القوى العاملة حسب القطاعات، نوعية العمالة «دائمة، مؤقتة، نظامية وغير نظامية»، إنتاجية العمل وكلفة وحدة العمل، وغيرها من المؤشرات والدراسات الخاصة بعملية العرض والطلب.ويركز المرصد على بناء وتطوير مؤشرات التعليم والتدريب والتي تعكس التغيرات الطارئـــة علــــى أداء المنظومة بمختلـــف مكوناتها ومستوياتها «التعليم الأساسي والتعليم الأكاديمي والتدريب المهني»، ما ينعكس بصورة مباشرة على الأوضاع في سوق العمل، ويساعد على الارتقاء بهذه المنظومة وتوفير خريجين مؤهلين حسب متطلبات واحتياجات سوق العمل وخفض معدلات البطالة أو الإبقاء عليها في حدودها الآمنة.إننا اليوم بإنشاء المرصد ننتقل إلى مرحلة جديدة ومتقدمة من التخطيط الاستراتيجي لتغيير تركيبة سوق العمل وردم الفجوة بين مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، وإيجاد حلول جذرية لمستقبل الأجيال المقبلة بصورة ناجعة، من خلال العمل مع شركائنا في القطاعين العام والخاص لتحقيق المشروع.