بقلم - الشيخ خالد السعدون: إن من يطع الله ورسوله، فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى. وبمناسبة انقضاء شهر الصيام شهر الإنفاق والقرآن والقيام، ها أنا أذكر بآية من لم يقف عندها فكأنه ما صام ولا قام، وإن أظمأ نهاره، ومنع ذوق لذيذ الطعام لسانه. قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»، ففي الآية عظيم فضل الصوم، لأن الأمم كلها قد أمرت به، وما هذا إلا لحبه تعالى للصيام، بل ومن كرامة الصائم على الله أن صار ريح فمه عنده أطيب من المسك.روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً: «قال الله كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جنةٌ، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحدٌ أو قاتله فليقل إني امرؤٌ صائمٌ، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك. للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقي ربه فرح بصومه».وفي قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»، وقفةٌ فمن لم يتدبر يظن أول الآية يخالف آخرها! فالحكمة من الصوم: «لعلكم تتقون» والخطاب قد وجه للمؤمنين: «يا أيها الذين آمنوا» والمؤمنون أتقياء أصلاً وفصلاً؟!وجوابه: أن العبرة ليست بتحقق الشيء وإنما في ثباته، والأعمال بثبوتها وخواتيمها، لذا فالحكمة في الصوم أن تدوم التقوى، وإلا فأصلها متحقق في كل مسلم ومؤمن، أو أن «لعلكم تتقون» بمعنى لتزداد التقوى.وكذا فكثيرٌ من الناس يظن أن الصوم ينقضي بانقضاء رمضان؟ والحق أنه ما انقضى، ولقد انقضى حقاً عند كثير منهم، فمن ضعفت عبادته ومعها تقواه، وأطلق بصره فيما حرم، ويده إلى ما يغضب، وانطلقت رجلاه بعد إذ انحلت سلاسله إلى ما لا يرضي، فانطلق قلبه فامتلأ بهوى النفس فسيره الشيطان، فمن كان كذا فرمضان وصومه وثمرته كل أولئك عنه قد ارتحل، فصار بفكه قيد حدود الله في شوال كالشيطان الذي سلسل في رمضان، ثم انطلق ليفسد ولا يصلح: «ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانًا فهو له قرينٌ»: فبئس القرينان هما من إنس وجان.وأما الموفق فقد علم أن للصوم حكمةً فلم ينقض عنده رمضان، وحكمته كما قال تعالى: «... لعلكم تتقون (183) أياماً معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر». ولو قيل: الأمر كما قال الله: «أيامًا معدودات» فرمضان ينقضي بانقضاء تلكم الأيام؟!فأقول هو كذلك، ولكن هذا غرسه، وأما ثمراته: فهي: «لعلكم تتقون» فمن تحصلت له التقوى ثم أقامت في صدره، فنعم المرء هو، وإلا فلا كبير خير في تقوى يتبعها فسقٌ وفجور!!ومعلومٌ من لغة العرب أن التعبير بالمضارع يفيد الحال والاستقبال، فمن انسلخ عنه رمضان والتقوى لم تزل في صدره، فقيد جوارحه عن السوأى، فهذا صائمٌ وإلا فهو ممسك! وفرقانٌ بين صائم وممسك! كفرقان ما بين العبادة والعادة.وأما وقت جني الثمرات: فهي تهدب وتؤكل حين الصوم، وفيما بقي من الدنيا، وحين لقيا الله:فثمرته عند الصوم جنةٌ وعاصمٌ من الخطايا: «والصيام جنةٌ».وأنت مأمورٌ بهذه الجنة فيما لو لم تتحقق فيك، ولابد من إلزام النفس بها ليتم لها صومها، وإلا فما صامت ولا أفطرت: روى البخاري عن أبي هريرة مرفوعاً: «من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجةٌ أن يدع طعامه وشرابه».وفي رواية لابن خزيمة عن أبي هريرة مرفوعاً: «ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحدٌ أو جهل عليك فلتقل: إني صائمٌ، إني صائمٌ».فثمرتان للصوم بل ثلاثة نجتنيها في الحال: أولاهما التقوى التي هي في القلوب، وهذه أدنى التقوى، وثانيهما ظهور التقوى على الجوارح واللسان، وهذه أوسطها، وأما الثمرة الثالثة ففرحٌ حين الفطر بالطعام: «للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح».وأما الرابعة فهي دوام التقوى: «لعلكم تتقون» كما تقدم تقريرها، وهذه أعلاها، وأما الخامسة الأخرى فحين لقيا الله: «وإذا لقي ربه فرح بصومه».فصار للصوم خمس ثمرات: تقوى في القلب للخير تدفع، وأخرى عن المعاصي تمنع، وفرحةٌ بالفطر، وثالث التقوى دوامها، وخيرٌ من ذلك كله الفرح حين لقيا الله، وحينذاك يود المسلم أن صام الدهر كله.