كتب - علي الشرقاوي: الروائي والكاتب حُسين المحروس، هو الكاتب الوحيد، حسب ما أعلم، الذي تناول سيرة الفنان البحريني الكبير يوسف قاسم، من خلال نص «عينُ الطير»، وهو نص مستمد من عشرات الأسئلة التي حاور فيها الفنان يوسف قاسم، في جلسات تجاوزت العشر بمكتبه بالرفاع الشرقي في المدة بين مارس 2001 ومايو 2001، قام المحروس بإعادة كتابتها على هذا النحو، بعد أن تمثل هذه الشخصية وتمثل أماكنها وأزمنتها، واستشعر أحاسيسها. وفي الجزء الثاني من هذه المقالة، ننقل ما كتبه المحروس عن الراحل يوسف قاسم. التحميض في البيت يقول يوسف قاسم: بدأت التحميض لمجموعة أفلام في البيت فنجحت في ذلك. ولك أن تتصور الحالة التي كنت فيها آنذاك . لم يبقَ عليَّ إلا طباعة الصور الآن. اشتريت ورق (Elford) من محل فكتور مراد وهو بحريني من أصل يهودي وموقع محله سابقاً هو موقع تشاردر بنك الآن بالمنامة. صرتُ أطبع الصور لأوّل مرّة خارج المستشفى. صار الناس يأتوني البيت لأصورهم. وأعتمد في ذلك على إضاءة الشمس حتى إذا جاءت الكهرباء في حيّ الفاضل استخدمت الإضاءة ومصباحاً مغطىً بقرطاس أحمر في غرفة مظلمة. ها أنا أمارس ذلك الذي شغفني حبّاً .. أمارسُ التصوير الفوتوغرافي. وبخفاء تام لا أشعر به تسرّب ما درسته فـــي مـــادة (Autonomy) في التصوير الفوتوغرافي فأخذت أهتم كثيراً بحركة الجسد ووضعه أمام الكاميرا، كذا وضع الرأس وإخفاء بعض مظاهر الجسد غير المرغوبة مثل الأنف الكبير.لم أتوقف عن ممارسة التصوير في المنزل، وبعد فترة ستة شهور تقريباً بدت طاقتي وطموحي في التصوير أكبر من إمكانات الكاميرا التي عندي. صرت أراها كأنّها كاميرا أطفال فذهبت إلى محل يُسمّى (جنجيرا) وموقعه موقع فندق العاصمة الآن بالمنامة. كان عمري 17 سنة تقريباً. طلبت منه شراء كاميرا فشكك في مقدرتي على التصوير، بعد ذلك وافق على بيعي إحدى كاميراته التي يستعملها في المحل. وقبل أن تنتقل الكاميرا إليّ صورني بها آخر صورة. لم أستطع تغطية المبلغ المطلوب فذهبت إلى الطبيب استورن وطلبت منه قرضاً سددته من راتبي في المستشفى الذي صار 90 روبية تقريباً . لكن الدكتور استورن لم يكن يعرف لِمَ هذا القرض !!قبل أن أنقل الكاميرا دربني عليها جنجيرا جيداً . كانت صورها رائعة جداً وفيلمها من نوع (Cut) وليس (Role) ومقاسه 5 X 7. وهي تعتمد على إتقان مستخدمها إلى تحديد الوقت المناسب للتعريض، فزيادة التعريض أو إنقاصه سوف يفسد الصورة.استلمت الكاميرا في فترة ألزمت الحكومة فيها مجموعات من الكويت وإيران والسعودية وعمان، وضع صورهم في تأشيرة الدخول لممارسة الغوص واستخراج اللؤلؤ. كان البحرينيون يطلقون على الإيرانيين اسم (التنكسير) في فرضة المنامة. طرأت عليّ فكرة فتح محل للتصوير (أستوديو) واستخدام هذه الكاميرا الجديدة فيه. بعد أيام من التفكير استأجرت محلاً مقابل محل ( جنجيرا ) بالمنامة. عملت خلفية لمكان التصوير، وإضاءة كهربائية. جلبت بعض المصابيح الكبيرة من موقع الجيش البريطاني في المحرق بعد عرضها للبيع. أوصلت أحد المصابيح بالكهرباء ثمّ أدرته لأرى كمية الإضاءة فيه، وهنا حدث تماس كهربائي فسرى التيار في جسدي وأحسست أني غير قادر على الابتعاد عنه. ولقصر السلك انقطع فتوقف التيار، أغمي عليّ فرشّ بعضهم ماءً على وجهي . ظللت أسبوعاً أعاني من التيار .ونظراً لكثرة الزبائن لم تكن تلك الكاميرا تسعفني كثيراً؛ لذا اشتريت كاميرا (Roalflaks) يحتوي فيلمها على 24 صورة . وهي أفضل كاميرا في تلك الأيام ولم أرَ بوضوح صورها حتى اليـــوم، ثم اشتــريت كامـــيرا (Linhofe) وكنت آخذ على الصورة 300 فلس . ونظراً لكثرة عملي في الأستوديو بدأت أتغيّب عن المستشفى الأمريكي . أحياناً أحضر المستشفى لكني أغادره بعد مرور بعض الوقت !! صاروا يبحثون عنّي في أرجاء المستشفى ولم يمضِ من الوقت كثير حتى عرفت إدارة المستشفى سرّ تغيبي هذا.وفي يوم لم يكن بهيجاً كثيراً دخل عليّ أحد الزبائن ولم أصدق أنّه كان الدكتور هارسن، أمريكي الجنسية وهو قس أيضاً وأستاذي في المستشفى . دخل عليّ الأستوديو وأنا أصور. - يوسف ؟- نعم ؟ بخوف - ماذا تفعل هنا؟ لماذا لا تحضر نوباتك في المستشفى؟- دكتور .. تعال إلى هنا «أخذته إلى مكتب المحاسبة فتحت درج الأموال» انظر دكتور كم حصلت من مال؟- ما هذا ؟- هذا من عملي الجديد في التصوير- أوه !!- أنتم تعطوني 90 روبية فقط - هذه أموال كثيرة عندكلم يرضَ عني الدكتور حتى ذهبت المستشفى في اليوم التالي، فوجدته هادئاً ومزاجه أفضل ما يكون. جلست جواره فوضع يده على رأسي وأخذ يدعو لي ويباركني. طلب مني أن أعاهده بتلبية نداء العمل في المستشفى وقت الضرورة فواعدته على ذلك. لقد صلى عليّ بمسيحيته وكنت أستشعر البركة في صلاته لأنّه لم يغضب عليّ كما توقعته. أما الدكتور إستورن فقد غضب عليّ وأنبني وذكّرني أن المستشفى علمني وصرف عليّ الكثير من النقود !! وطلب مني الرجوع حالاً وترك الأستوديو. وبعد فترة طويلة سافر خليل زباري مسؤول التصوير في المستشفى فطلبني الدكتور إستورن للعمل مكان خليل فوافقت على ذلك. بعد فتح أستوديو أوال جاءني رجل هندي الجنسية صار صاحــب محل «Smart» بعد ذلك. قال لي: «أنا جئت من الهند لأفتح محلاً للتصوير ومتعلقاته « كان يودّ فتح المحل بقرب أستوديو أوال وفي الشارع نفسه وكذلك الاستفادة من الديكور الذي أعجبه في هذا الأستوديو، وعندما فتح المحل طلبت منه إحضار مجموعة أصباغ من محل «خان باي» في المنامة، عملت له خلفية عبارة عن غيوم ففرح بذلك، لم يهمني أن يفتح بجنبي مع أنّه أجنبي ولم أعاده، لأنّه لن يتغلب عليّ، كما أنه سوف يحدث مقارنة بيني وبينه وهذا يجعلني أكثر انتباهاً ومنافسة.استمرَّ استوديو أوال في العمل، وهنا لابدّ من العقبات، إذ بدا التصوير في أستوديو أوال غير مقبول لدى التاجر حسين يتيم الذي يقع مكتبه في شارع الأستوديو نفسه، كان حسين يتيم يخرج من مكتبه ويقول «يوسف اترك عنك ها التصوير.. بنات يأتون إليك وأنت رجل شريف ولد ناس ولد أوادم بتخرب سمعتك .. لا تضع نفسك في مثل هذه الأمور» كنت أحترمه كثيراً رغم تقارب العمر بيننا.. وإلى جنب الاحترام كان هناك خوف أيضاً.. صار الأستوديو عندي كالنار لذا رأيت إغلاقه . كان هو المعارض الوحيد الذي التقيت به في البحرين ولم يحدث أن عارضني أحد غيره هنا . لكن ثمّة معارضة أخرى أشد في المنطقة الشرقية أسردها في المكان المناسب. فلاش باك عن ديكور قديم يقول الشاعر قاسم حداد في كتابه (المسرح البحريني – التجربة والأفق) والصادر عن مسرح أوال 1981 «كما قدم النادي الأهلي العام 1947، مسرحية «عبدالرحمن الناصر» التي أعدها وأخرجها محمود المردي وهي تمثل علامة بارزة في النشاط المسرحي آنذاك، من حيث التجسيد الحي لديكور العرض، والذي نفذه الفنان يوسف قاسم» حيث إن أحداث المسرحية تقع في الأندلس وكان من المفروض أن تظهر بها قصور الأندلس، فقد صنع الفنان يوسف قاسم تماثيل من الجبس لإبراز منظر قصر الحمراء، أسود يخرج الماء من أفواهها، ولم تكن المياه موصلة سنة 1947، إلا إن براعة وذكاء يوسف قاسم جعلته يفكر في طريقة إدخال أنابيب للأسود وكلف مجموعة من السقاءين بجلب الماء من العين البعيدة وصبه في خزان فوق المسرح لينزل في الأنابيب ويخرج من أفواه الأسود، كانت محاولة لإظهار المنظر دون إمكانيات وبجهود فردية، ويضيف حداد أنه ضمن الظروف التي عرضت فيها المسرحية، تعتبر هذه التجربة الفنية متقدمة من حيث القدرة على إبداع التنفيذ، والغريب في الأمر أن التاريخ تناقل هذه الحادثة بكثير من الفخر، في الوقت الذي لم يصلنا بشيء مهم يتعلق بجوانب أخرى من العرض كالتمثيل والإخراج والنص. استوديو الظهران وعودة ليوسف قاسم: في استوديو الظهران مارستُ الخدع في التصوير الفوتوغرافي. جاء شخص ذو وجه يمكن أن نتصور فيه الشيطان لو عملت عليه بعض الخدع. طرحتُ عليه الفكرة فوافق بسرعة. عندها أجلسته وجعلت مصباحاً عند قدميه بحيث تسطع الإضاءة في وجهه من الأسفل، أي أن الإضاءة تبدأ من أسفل الأنف فقط ! وهكذا العينان بعد أن غيّرت تسريحة شعره واتجاه شعر الحاجبين. ظهرت الصورة أبشع من الشيطان لو تخيلناه. بعدها انتفخ هذا الباب وتنوعت رغبات الزبائن، حتى أن بعضهم رغب في التصوير بجانب بعض الملوك. بدأت مشكلة أخرى وهي رغبة الناس في الحصول على صورهم في الحال، كانت هناك آلة تصوير تسمى (Photon) تأخذ الصورة وتجهزها في الحال، لم تكن هذه الآلة موجودة في الخليج فذهبت إلى العراق وذلك لتقدمها في التصوير في تلك الفترة. لكني لم أجدها في العراق !! فعدت إلى البحرين أفكر في الحل . وعندما وجدته كان حلاً جزئياً. أصور الشخص وأطلب منه أن يأتي بعد نصف ساعة. أغسل الفيلم وأطبعه على زجاجة بعد أن أضع عازلاً من ورق الجلاتين الشفاف حتى لاتصل الرطوبة إلى الزجاجة. بعدها أضع الزجاجة على الورق وألصق الصورة وأسلمها للشخص وهي رطبة في نصف ساعة تقريباً. لم يعرف أحد هذا الاختراع. عدت للعراق مرة أخرى فلم تصل الآلة بعد فقررت السفر إلى بيروت وبحثت عنها في جميع الاستوديوهات هناك حتى دلني أحدهم على أستوديو في ساحة الحمراء فلما وصلت رأيت آلة كبيرة جداً وقديمة قال لي صاحبها هذه هي الفوتو موتون (Photomaton) ولا يوجد غيرها في لبنان وأنها ليست للبيع . طلبت منه أن يصورني ففعل. سمعت صوتاً غريباً ثم إضاءة . كأنّي عرفت الطريقة فصممت غرفة مشابهة لآلة (Photomaton) تخرج منها عدسة ومصباحان، ويتم التحميض داخل هذه الغرفة واستخدام التقنية نفسها التي كنت أستعملها من قبل لإنتاج الصور السريعة. وهكذا تحققت هذه الآلة محلياً!!!. لقد تغلبت على معوقات كثيرة في التصوير وكنت لا آمل من تحقيق الهدف. المرحلة الكويتية ويتابع قاسم: إن الكويت كانت محطتي الأخيرة في التصوير الفوتوغرافي، مارستُ التصوير هناك نشاطاً مع الفرقة الكشفية، هذا هو آخر عهدي بهذا الفن الرائع، بعدها لم يبقَ سوى مجموعة صور كبيرة جداً مزقتها زوجتي بعد الزواج مباشرة ولم تُبق لي سوى الصور التي كنتُ أنا فيها. قالت عن الصور التي فيها فتيات «صور سرسرية». فجأة هكذا تُصبح ذاكرتي البصرية بلا مرجع خارجي. وسيرتي في التصوير كان معظمها في تلك الصور. هل كان من الضروري أن أبقى بدون تلك الذاكرة ؟ أرى الفنَّ مثل عين الطير. لماذا أحببتُ أن أكون «عين الطير» ؟ لماذا لم أختر فناً واحداً وأتخصص فيه وأنبغ؟ وضعت الفنون أمام عيني متدرجين فرأيت خصائص كل فنّ من هذه الفنون وأخذت أحلل فيه. وهنا برزت لي علامة كبرى تشير لي بأن «الفنون كلها فنّ واحد» ورأيت أنّي لا أمارس فنوناً متعددة بل فنّاً واحداً. فالتصوير الفوتوغرافي - مثلاً - فيه نور وإضاءة بل اعتماده أصلاً على النور . وفيه كتلة، وفيه مقدمة أمامية (Foreground)،خلفية (Backgroun) وربما فيه شخص، وفيه فضاء، وزمن الصورة، والزمن الذي أخذت فيه الصورة. ولو رجعنا إلى الموسيقى لوجدنا فيها زمناً، والخلفية في الصورة هي السكتة في الموسيقى. وفي الموسيقى نجد الهارموني الذي يقابله الألوان في الكاميرا وهي درجات. فعندما تركز إضاءة عود كبريت على الوجه وتقتم باقي الجسد والخلفية فإننا سنحصل على صورة صفراء لوجه واضح. بالإضاءة تستطيع أن ترى الكثير من الألوان وتدرجاتها في التصوير الفوتوغرافي وبدون ألوان أخرى ؟؟! من هذا الذي مرّ رأيت التصوير الفوتوغرافي والموسيقى قريبين جداً ومتداخلين أيضاً. وفي المسرح نجد الفضاء أو الفراغ الذي يتحرك فيه الممثل. ولا بد من أن يكون تكوين المسرح وديكوره وأثاثه تساعد على رفع معنويات الممثل، وعلى توصيل الرسالة إلى المتلقي وهو الجمهور، وهو يقوم بوظيفة الفراغ في الصورة تقريباً. في المسرح يكون الممثل هو الموضوع الذي تتبعه العيون، وهذا ما يحدث عندما نركز على وجه في الصورة الفوتوغرافية. مرة أخرى نرى الفاعل، والفراغ، والأمامية والخلفية، والزمن، والحدث، والمكان، والموضوع. ولأنّ المسرح كما يقال «أبو الفنون» فهو يجمع الموسيقى، والتصوير وغيرهما من الفنون. رأيت أنّي لن أقدم ديكوراً ممتازاً للمسرح ما لم أتعلّم الموسيقىأرى الفنون بعين الطير ها أنا أخيراً أترك الموسيقى والتصوير من أجل أوّل ما عرفته في الفن.. إنّه الرسم. رغم أنّي أعرف أن الفنون التشكيلية لن تدرّ عليّ نقوداً.. الفنّ كتلة من حضارة الإنسان.. انتقلت من جيل إلى جيل ومن حضارة إلى أخرى.. أنا رأيت الفنون مثلما يرى الطير المحلق الأرض من أعلى. في هذه الحالة إنّك لا ترى شيئاً واحداً فقط، كما أنك لا تراه من جهة دون أخرى. وفي التصوير الفوتوغرافي تسمى عين الطير (Aye Beard) . درست الفن دراسة غير أكاديمية بل فلسفية تطبيقية، بالإضافة إلى النظر في فنّ الفنانين الكبار والاستفادة منهم. وبذلك أكون قد فتحت كل الأبواب أمامي. سافرت معظم دول العالم: فرنسا، إيطاليا، الهند، العراق، المغرب، مصر. في معظم سفراتي كنت فيها مشاركاً أو متحدثاً في تخصصي وهذه كانت فرصة لي للقاء الفنانين الكبار.