يمكننا القول إن الشغل على النص الشعري باعتباره مادة معرفية هو خاصية الشاعر عبدالرحمن طهمازي، صحيح أن اللغة تشكل بالنسبة للنص منطلقاً نقدياً لتفسير النصوص إلا أنها بالنسبة لنصوص طهمازي أكثر من مجرد منطلق، إنها معرفة فنية جمالية، نقدية لغوية وفي حدودها تتحرك الكتابة الشعرية أو عليها أن تتحرك إذا جاز لنا التعبير.هكذا كتب عبدالكريم كاظم في قراءة له نشرها في موقع إيلاف، إذ قال إن النص الشعري المعرفي الذي يكتبه لا يستهدف المعنى وحسب بل بنية النص اللفظية، أي أن يظهر، في ذات الوقت، علاقات التركيب المعرفي بين الجمل والألفاظ والوحدات أو الصياغات اللغوية، أو أن يكشف طبيعة العلاقات الفكرية التي ينبني بها شكل النص، أو أن يضع المعنى المتصل بدلالات النص ونسيجه الجمالي، أو أن يضع المعرفة -الفكرة- من حيث هي مادة لغوية موضوعاً لنصه، بمعنى آخر أن يربط النص بالمعرفة اللغوية، من حيث هي علم، فيعرف بها نصه، ومهما كانت طبيعة الارتباط اللغوي، التي هي طبيعة المعرفة الشعرية ومنطلقاتها الجمالية، ومهما كانت حدود الاتصال بالشكل اللغوي فإن قراءة نصوص طهمازي تبقى مستندة، إضافة إلى علوم اللغة، وإلى المعرفة، هذا أمر يبقى ضرورياً للقراءة النقدية، من الناحيتين الجمالية والفنية، ومن خلال هذه الضرورة تبرز حاجة نقدنا، الذي تمادى كثيراً في استعانته بمناهج النقد التقليدية، إلى مناهج نقدية متصلة بالنص الشعري المغاير الذي يتملكنا جمالياً ويعيننا على اكتشاف النصوص وقراءتها من جديد.هناك الكثير من النصوص الشعرية التي خلقت في الأمس أو اليوم بعض المتغيرات في قوانين التركيب اللغوي والمعنى والدلالة كشفت للقراءة النقدية، أيضاً، الكثير من المعارف المتصلة بأنماط التعبير التي تخص النص الشعري وهو يحاول المزج بين الحياتي والمجرد أو بين الذاتي والفكري، وهذا النص أو ذاك لم يكن بحثاً في قوانين التركيب اللغوي وحسب، بل من أجل المعرفة الموازية لخصوصية الكتابة التي تجد نفسها في نمط التركيب من حيث هو صياغة جدلية جديدة لها منطقها الفني وتمايزها اللفظي والدلالي أو الإيحائي والرمزي. لاشك أن هناك نسقاً شعرياً معرفياً يتجلى في وحدة نصوصه، وهو نسق فكري أيضاً، يعبر عن رؤيته الجمالية للغة، على أن هذا النسق يتحرك بأشكال فنية متجددة ومختلفة أو متداخلة في الأفكار والتعابير اللفظية والمواقف الحياتية المتصلة بذات الشاعر، وهكذا نتبين أن التفاصيل المشار إليها سلفاً لا تشير إلى معانيها الشعرية المباشرة وإنما تتضمن دلالة مركبة تجمع بين الذاتي والفكري مثلما تجمع بين الفني والجمالي، وكذلك الأمر بالنسبة للألفاظ المغايرة في أغلب نصوص طهمازي، فالألفاظ هنا، ليست مجرد كلمات وجمل أو عبارات ومقاطع وإنما هي دلالات فكرية، بل تكاد تعبر عن المعاني الفنية للنص في تداخلاته اللغوية المختلفة، وبالتالي فهي ألفاظ من ناحية التقييم الفني أو الصياغة وإن تكن تجسيداً لفكرة النص المعرفي، ولو تأملنا في هذه الألفاظ المتناثرة في هذه المقاطع فلعلنا نتبين بالفعل دلالة أكبر من مجرد القول بمنطق النص المعرفي نقدياً أو أدواته الوصفية والتكوينية: (حول خان اللغات مد وجهي وراح) (أمل دموي: شبح ينزل في إنائي، شبح يصعد في السلم، شبح للأخشاب، شبح لي) (زجاج النهر الشجري: كيف تبدو الشجرة دائماً في أعين الناس؟) (وإذ تتراطن كل اللغات على شفة السندباد) (الرسام: إنني أتحمس للشعر واللون وهو يسيل على العاطفة، مثلما يعجب الزيت بالمنظر الجانبي الذي تاه فيه، مثلما يدرس العراقي أهواله) (مديح: فإني أحب الوجوه التي تجيء إلي وتنهي أحاديثها في بيوت بعيدة)، ومن الواضح أن الكتابة الشعرية التي يقصدها طهمازي، في مجمل نصوصه، هي الكتابة المعرفية التي لا يدخل الشاعر في كتابتها وحسب بل في تشكل حياته وعلاقاته اللغوية المعقدة، وهذا ما قاله طهمازي في هذه العبارة بطريقة أكثر تحديداً أو وضوحاً من الناحية الفكرية المرتبطة بطبيعة كتاباته الشعرية: (منذ ليلتين وأنا أجعل أمثالي بسيطة فيزيد تعقيدي)، وهكذا تتلاقى العلاقات اللغوية لتبرز دلالة موحية متصلة بالنص الشعري الذي يكتبه الشاعر وهكذا، أيضاً نتبين أن العلاقات اللغوية في النص الشعري لطهمازي ليست جملاً شعرية كما يتصور بعض النقاد وليست ألفاظاً عابرة، وإنما هي تعبير عن تشابك الأشكال الجمالية-الفنية بما يضيف إليها دلالة خاصة أخرى تتصل بطبيعة القراءة النقدية وعلاماتها مثلما ترتبط بالمعاني المتناثرة.نجد في بعض نصوص طهمازي ذاتية مفرطة، ولكن هذه الذاتية تتضمن دلالة وفكراً وترتفع أحياناً إلى حد التجريد، بل يتم تداخل حميم بين الذاتي الملموس والفكري المجرد، ويعبر الشاعر عن ذلك في هذه المقاطع من مجموعته الشعرية (ذكرى الحاضر) الصادرة عام 1974 بعنوان: (سلاطين العجم: آه لو تبكي على نفسك يا رحمن ساعة)، وكذلك في هذا المقطع: (التوأم: بينما كنت بين الرهائن، كان ثمة رحمن يعدو إلي وينقذني، ثم أتركه بينهم عائماً في الخطأ) (بينما يختم الحزن بهجتي الصغيرة، أيمكنني أن أكون قريباً من اليأس في العاطفة) إضافة إلى هذه الالتقاطات الذاتية المحضة من مجموعته الشعرية المعنونة (تقريظ للطبيعـــة) الصـــادرة عـــام 1984: (صمتك يا قلبي ثقيل عليك، مكبل أنت بما في يديك) (أتكتب شعرك من أجل أن يسكت الشعراء؟)، إن النص الشعري المعرفي لا يمحو الذات، فهو من صميم الكتابة الفكرية أو الحياة وطريقة فنية للتعبير عن حقيقتها الذاتية أيضاً، ولكن الذات تتجلى في التفاصيل اليومية بخصائص حياتية مقاربة لا تختفي عند التفكير المجرد الموازي للحكمة، والذات الخالصة لا تجدها إلا في الكتابة الشعرية الخالصة أيضاً.