كتب - أمين صالح: هانيكه في أفلامه يحرص على أن يدع جمهوره يشارك في التأويل والتفسير. هناك دوماً فجوات في المعرفة، التباسات وحالات غامضة، نواقص سردية. المتفرج مطالب هنا بالمشاركة في تجسير العلاقات، في ربط الصلات، في توصيل القطع بعضها ببعض. الكثير من العناصر الرئيسة والثانوية متروكة من دون توضيح وفي غموض، هناك علاقات عديدة غير مفهومة أو أن الفيلم لا يوضحها عامداً. ونحن لا نعرف من ارتكب كل تلك الاعتداءات. إنها جرائم غير محلولة أبداً. قضايا مسجلة ضد مجهول.كيف يمكن التمييز بين الحقائق والأكاذيب؟ ماذا عن الدوافع؟ ماذا عن مصير الشخصيات الغامضة؟ واضح أن الأطفال مسؤولون عن الاعتداءات، ثمة إيحاءات ضمنية، إشارات خفية، مع أن المخرج على نحو مقصود يتجاهل التفاصيل، ولا يحدد هوية الأطفال الذين يرتكبون الفعل العنيف.يقول هانيكه: «كما في الحياة الواقعية، بل كما في روايات التحري الخاص، هناك عناصر مختلفة تعمل وتتفاعل في ما بينها لتزودنا بالعديد من التفسيرات المحتملة، المختلفة. من المحتمل أن لا تكون كل الجرائم في الفيلم ارتكبها شخص معين، أو مجموعة من الأشخاص. من الممكن، على سبيل المثال، أن يكون سبب الحريق في المخزن مجرد شرارة مست قشاً رطباً، وأن سقوط زوجة المزارع وموتها كان محض صدفة، قضاء وقدر وليس جريمة قتل. هناك عدد من التفسيرات المحتملة، وليس مجرد حل واحد».هانيكه لا يهتم بتوصيل الحالات وربطها معاً. عدد من الأفعال تبدو غامضة، غير مفسرة. إنه لا يعرض على الشاشة كل ما حدث، كما لا يخبرنا شيئاً عما حدث.عن هذه المسألة يقول هانيكه: «التفسيرات غير هامة. فقط في السينما السائدة، تفسر لنا الأفلام كل شيء، وتزعم أنها تمتلك أجوبة على كل ما يحدث. في الحياة الواقعية، نحن لا نعرف الكثير. هناك الكثير من الأشياء والحوادث التي تقع ولا نفهمها. إذا كذب علينا شخص ما فإننا نادراً ما نعرف أنه يكذب علينا. فقط في الأفلام السيئة نحن ندرك في الحال أن الممثل يكذب في ما يؤدي دوره، ويبدو غبياً. أنت تخلق فيلمك بطريقة تجعل المتفرج مجبراً على إيجاد تفسيره الخاص، تأويله الخاص، وأن يطرح الأسئلة بدلاً من تقديم كل الأجوبة».الفيلم يظهر الطبيعة الجماعية لسلوك الأطفال، الإحساس الغامض بالتهديد المقلق الذي يجلبه حضورهم معاً، وفي أماكن متفرقة من القرية. غالباً ما نراهم في حالة ترقب، يصغون ويراقبون ويرصدون كل شيء.. خصوصاً أخطاء الكبار وخطاياهم.الأطفال هم ضحايا للعنف ومرتكبين للعنف في الوقت نفسه. أبرياء وآثمون في آنٍ. إنه مؤشر للفساد المتأصل في هذا المجتمع، ووعد بالمستقبل الفاتر حيث «معاقبة الأبناء بسبب الخطايا التي يرتكبها الآباء حتى الجيل الثالث والرابع».كعادته في معظم أفلامه، يتجنب هانيكه تصوير العنف البصري. الرعب لا ينشأ من الصور المعروضة على الشاشة، بل هناك انبثاق لإحساس مروع بوجود عنف سري يكمن أسفل سطح المجتمعات والعائلات المتحضرة.ضمن المواد الغنية هناك عنصر اللغز، الخفاء.. بل إن الراوي الذي لا يمكن التعويل عليه، منذ البداية يعزز الشك ويعمق السر والغموض حين يقول: «لا أعرف ما إذا كانت القصة التي سأرويها لكم حقيقية تماماً».إلى جانب الحوادث المرعبة والمخيفة، يظهر لنا المخرج مشاهد مصورة برهافة وحساسية فائقة: اللحظات التي تجمع بين القس وابنه الصغير الذي يهديه طائراً مقابل الطائر المقتول. الحوار الذي يدور عن الموت بين ابنة الطبيب وشقيقها الصغير. المشاعر العاطفية التي يتبادلها المدرس وخطيبته.ينتهي الفيلم بكادر ثابت لأهالي القرية -من مختلف الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية- وهم يؤدون طقساً دينياً داخل الكنيسة، قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى بأيام، بعد أن بلغهم نبأ عن اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند (وهو من أمراء الأسرة الإمبراطورية النمساوية) في يونيو 1914.. هذا الحدث الذي كان الشرارة لإعلان تحالف النمسا وهنغاريا في الحرب على الصرب واندلاع الحرب العالمية. وبينما هم مجتمعون، هؤلاء الذين اختبروا العنف واعتادوا عليه، يتولد لدى المتفرج إحساس بأنهم على وشك فقدان اليقين بالمسلمات، وبالكثير من الأشياء التي آمنوا بها، يعزز هذا الإحساس تلاشي الصورة لتحل الظلمة.فنياً، ومن أجل الحصول على التأثير الذي أراده، قام هانيكه بتصوير الفيلم بالألوان ثم حوله رقمياً (عن طريق الديجيتال) إلى الأسود والأبيض الذي أعطى الفيلم عمقاً وصفاءً.عن الأبيض والأسود يقول مصور الفيلم كريستيان بيرجر: «الأمر لم يكن مألوفاً واعتيادياً، كان نوعاً جديداً من الأبيض والأسود، والذي تم استخدامه مؤخراً في أفلام أخرى، مثل Good Night and Good Luck للمخرج جورج كلوني. وThe Man Who Wasn't There للأخوين كوين. ولقد قمت بالاتصال بمصور فيلمهما، روجر ديكنز، لأسأله عن تجربته في الموقع وفي المعمل. إذن هذه ليست تقنية جديدة كلياً بل خطوة أخرى من جانب الديجيتال. إنها تعطي الانطباع بمستوى جديد من النوعية بالأسود والأبيض».كريستيان بيرجر، الذي صور عدداً من أفلام هانيكه السابقة، والذي فاز بجائزة أفضل مصور عن فيلم «الشريط الأبيض» من نقاد نيويورك، يتحدث عن هانيكه فيقول: «هو لديه أفكاره الخاصة والتي قد لا تتوافق مع أفكاري، لكنني أحترمها. إنه ينفذ ما يكتبه، ويقوم بالكثير من البحوث والتحضيرات. وهو منظم ودقيق جداً في عمله. وأنت لا يمكنك أن ترتجل. هو يكره الارتجال لأنه يحتاج أن يتحكم في عمله بشكل مطلق ويفرض سيطرته على كل عنصر. لكن من جهتي، أمتلك حرية تامة في تصميم الإضاءة وخلق الجو العام للمشاهد. كان يقول، على سبيل المثال، أحتاج إلى مصباح زيتي صغير في تلك الحجرة. ونحن نلبي حاجته لكن باقي العمل يكون وفق ما أراه».الفيلم من الإنجازات السينمائية الرائعة، على مستوى الموضوع والأفكار، وعلى المستوى البصري.. وقد حاز بجدارة على الجائزة الكبرى، إضافة إلى جائزة النقاد الدوليين، في مهرجان كان 2009. وجوائز الفيلم الأوروبي كأفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل سيناريو. وجائزة جولدن جلوب كأفضل فيلم أجنبي. وحصل على عشر جوائز من مسابقة الفيلم الألماني من بينها أفضل فيلم ومخرج. وجائزة نقاد شيكاغو كأفضل فيلم أجنبي.