القدماء عنوا بجمع الأمثال مع وجود كثير منها في كتب اللغة والأدبالمثل ظاهرة فريدة في الآداب العالمية لطبيعته اللغوية والتركيبيةاختلف الأعرابي والإسكافي فخسر الأعرابي دابته وعاد «بخفي حنين»علماء اللغة أحاطوا بعدد هائل من الأمثال عبر العصوركتب - عبدالرحمن صالح الدوسري: العلاقة بالأمثال لها دلالة واضحة وقريبة من الحكاية الخرافية التي كان يتجنب راويها المواجة القمعية مع السلطة سواء في القضايا السياسية أو الاقتصادية أو سواها، فيلجأ إلى سرد حكاية على لسان الحيوان وصراع مرير بين الأسد والثعلب وغيره من الحيوانات القليلة الحيلة ضد ملك الغابة. وهي بالأساس جزء رئيس من الأمثال «الشعبية» وقد قيل إنها شعبية لارتباطها بمصير الشعوب القليلة الحيلة التي دائماً ما تبحث عن التنفيس عن مشاكلها وهمومها بعيداً عن عيون تبحث عن كشف الخطايا والتعجيل بمعاقبة صاحب المثل أو مصدره على أنه ذنب وجريمة يجب المعاقبة عليه. لكن عندما نبحث عن معنى «مثل» في معاجم اللغة نراه يتوزع بين المفاهيم التي يختلط فيها المحسوس والمجرد «التسوية والمماثلة، الشبه والنظير، الحديث، الصفة، الخبر، الحذو، الحجة، الند، العبرة، الآية، المقدار، القالب، الانتصاب، نصب الهدف، الفضيلة، التصوير، الالتصاق بالأرض، الذهاب، الزوال، التنكيل، العقوبة، القصاص، الجهد، الفراش، النمط، الحجر المنقور، الوصف والإبانة». في «لسان العرب» قيل إن «مثل هي كلمة تسوية يقال هذا مثله ومثله كما يقال شبهه وشبهه، قال ابن بري «الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين، لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة لا تكون إلا في المتفقين، والمثل «الحديث نفسه»، والمثل «الشيء الذي يضرب لشيء مثلاً فيجعل مثله» وفي الصحاح «ما يضرب به من الأمثال»، قال الجوهري «ومثل الشيء أيضاً صفته، قال بن سيدة: وقوله عز من قائل: ?مثل الجنة التي وعد المتقون? قال الليث: مثلها هو الخبر عنها، وقال أبو إسحاق: معناه صفة الجنة، ويقال: مثل زيد مثل فلان، إنما المثل مأخوذ من المثال والحذو، والصفة تحلية ونعت، ويقال: تمثل فلان ضرب مثلاً، وتمثل بالشيء ضربه مثلاً، وقد يكون المثل بمعنى العبرة ومنه قوله عز وجل: ?فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين?. نجد أبي إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابي قد عرف المثل بقوله: «هو ما تراضاه العامة والخاصة في لفظه ومعناه، حتى ابتذلوه فيما بينهم وفاهوا به في السراء والضراء، واستدروا به الممتنع من الدر، ووصلوا به إلى المطالب القصية، وتفرجوا به عن الكرب والمكربة، وهو من أبلغ الحكمة لأن الناس لا يجتمعون على ناقص أو مقصر في الجودة أو غير مبالغ في بلوغ المدى في النفاسة». ويقول السيوطي في تعريف المثل نقلاً عن المرزوقي صاحب كتاب «شرح الفصيح» إنه: «جملة من القول مقتضبة من أصلها أو مرسلة بذاتها، فتتسم بالقبول وتشتهر بالتداول فتنتقل عما وردت فيه إلى كل ما يصح قصده بها، من غير تغيير يلحقها في لفظها وعما يوجه الظاهر إلى أشباهه من المعاني، فلذلك تضرب وإن جهلت أسبابها التي خرجت عليها، واستجيز من الحذف ومضارع ضرورات الشعر فيها ما لا يستجاز في سائر الكلام»، نجد الميداني قد استهل كتابه «مجمع الأمثال» بعرض آراء بعض أهل اللغة والأدب والكلام، إذ يذكر رأي المبرد قائلاً: «المثل مأخوذ من المثال، وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول والأصل فيه التشبيه». ويرى كل من إبراهيم النظام وابن المقفع قائلاً: «قال إبراهيم النظام: يجتمع في المثل أربعة لا تجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية، فهو نهاية البلاغة. وقال ابن المقفع: «إذا جعل الكلام مثلاً كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث»، ويقول الميداني «أربعة أحرف سمع فيها فعل وفعل، وهي مثل ومثل، وشبه وشبه، وبدل وبدل، ونكل ونكل، فمثل الشيء ومثله وشبهه وشبهه: ما يماثله ويشابهه قدراً وصفة، فالمثل ما يمثل به الشيء: أي يشبه، فصار المثل اسماً مصرحاً لهذا الذي يضرب ثم يرد إلى أصله الذي كان له من الصفة، فيقال: مثلك ومثل فلان: أي صفتك وصفته، ولشدة امتزاج معنى الصفة به صح أن يقال: جعلت زيداً مثلاً والقوم أمثالاً، ومنه قوله تعالى: «ساء مثلاً القوم» جعل القوم أنفسهم مثلاً في أحد القولين». أما العسكري فقد تناول ظاهرة الاقتصاد اللغوي في المثل إذ يقول: «ولما عرفت العرب الأمثال تتصرف في أكثر وجوه الكلام وتدخل في جل أساليب القول، أخرجوا في أوقاتها من الألفاظ ليخف استعمالها ويسهل تداولها، فهي من أجل الكلام وأنبله وأشرفه وأفضله، لقلة ألفاظها وكثرة معانيها ويسير مؤونتها على المتكلم من كثير عنايتها وجسيم عائداتها، ومن عجائبها أنها مع إعجازها تعمل عمل الإطناب، ولها روعة إذا برزت في أثناء الخطاب والحفظ الموكل بما راع من اللفظ وندر من المعنى»، ويشير الماوردي إلى التأثير النفسي للأمثال قبل أن يعرض خصائصها فيقول: «وللأمثال من الكلام موقع في الأسماع وتأثير في القلوب، لا يكاد الكلام المرسل يبلغ مبلغها ولا يؤثر تأثيرها، لأن المعاني بها لائحة والشواهد بها واضحة والنفوس بها وامقة والقلوب بهـا واثقة والعقــول لهـا موافقة، فلذلك ضرب الله الأمثـال في كتابه العزيز وجعلها من دلائل رسله وأوضح بها الحجة على خلقه، لأنها في العقول معقولة وفي القلوب مقبولة.أمثال لها قصص هناك بعض من الأمثال التي كانت ومازالت متداولة وتعود استخداماتها للعديد من القصص التي تستوجب تواجدها إلى اليوم ومنها على سبيل المثال «رجع بخفي حنين» ويضرب هذا المثل لإظهار خيبة الأمل واليأس من بلوغ الحاجة، فالخفان هما عبارة عن جوارب مصنوعة من جلد أو نحوه، يطلق الخفان على الزوج من هذه، أما الواحد الذي يلبس في القدم الواحدة فيقال له خف، ومنه الزوجان يكون للاثنين المتلازمين، والواحد منهما زوج.قصة المثل تأتي أن حنين هذا كان إسكافياً «مصلح أحذية» من أهل الحيرة، جاءه إعرابي يريد أن يشتري خفين منه فساومه كثيراً حتى أغضب حنين الإسكافي كثيراً، وخرج ولم يشتر منه الخفين فازداد غضبه، فقرر حنين أن ينال منه، فذهب حنين إلى طريق عود الإعرابي فألقى الخفين في طريق عودته كل في مكان مختلف، فلما مر الإعرابي بالخف الأول قال: ما أشبه هذا بخف حنين، ولو كان معه غيره لأخذته، ومضى وتركه، حتى إذا وصل إلى الخف الثاني بعد حين، ندم أن لم يكن أخذ الأول، فعقل «ربط» دابته وعاد ليأخذ الخف الأول، فوثب حنين على الراحلة «الدابة المحملة بالأمتعة» وأخذها بما تحمل، ولما رجع الإعرابي إلى أهله سألوه ما أحضرت معك من سفرة، فقال: رجعت بخفي حنين… ثم صار بعدها مثلاً.كذلك هناك من الأمثال «إذا عز أخوك فهن» يضرب هذا المثل للتواضع وحسن العشرة مع الإخوة والأصدقاء، فإن مشاحنات الأقارب والأزواج والإخوة والأصدقاء الخاسر فيها رابح والرابح فيها خاسر، فكن خير الاثنين وأعظم الرابحين، وإذا عز أخوك وأصر عليك فكن هيناً لينا معه.قصة المثل تروي أن هذيل بن هبيرة الثعلبي كان سيداً مطاعاً خرج في غزو وفي الطريق طلب إليه أصدقاؤه أن يقتسم معهم الغنيمة والسلب، فرفض وأبى خشية أن يدركهم القوم أصحاب الغنيمة، فأصروا عليه والحوا في طلب القسمة، فأجابهم إلى طلبهم، ونزل على رغبتهم وقال: «إذا عز أخوك فهن» فذهبت مثلاً.ويدخل جحا في منظومة الأمثال كما في القصص والطرائف «مسمار جحا» هو لا يقل شهرة عن جحا نفسه.. وجحا شخصية هامة جداً فبتاريخنا، إذ طالما كان اللسان المعبر عما نسميه الآن «الأغلبية الصامتة»، أما مسماره فيضرب به المثل في اتخاذ الحجة الواهية للوصول إلى الهدف المراد ولو بالباطل. وأصل الحكاية أن جحا كان يملك داراً، وأراد أن يبيعها دون أن يفرط فيها فاشترط على المشتري أن يترك له مسماراً في حائط داخل المنزل، فوافق المشتري دون أن يلحظ الغرض الخبيث لجحا من وراء الشرط، لكنه فوجئ بعد أيام بجحا يدخل عليه البيت، فلما سأله عن سبب الزيارة أجاب جحا: جئت لأطمئن على مسماري!! فرحب به الرجل بحسن نية، وأجلسه وأطعمه، لكن الزيارة طالت والرجل يعاني حرجاً من طول وجود جحا، لكنه فوجئ بما هو أشد من ذلك، فقد خلع جحا جبته وفرشها على الأرض وتهيأ للنوم، فلم يطق المشتري صبراً، وبادره بالسؤال؟ ماذا تنوي أن تفعل يا جحا؟!فأجاب جحا بكل هدوء: سأنام في ظل مسماري!! وتكرر هذا كثيراً.. وكان جحا يختار أوقات الطعام ليشارك الرجل في طعامه، فلم يستطع المشتري الاستمرار على هذا الوضع، وترك لجحا الدار بما فيها وهرب!!أما المثل الثالث في هذا السياق فهو «على نفسها جنت براقش»، وبراقش كلبة لقوم كانوا فقراء وحالتهم معدومة وكانت بها قرادة وثقالة دم، وغارت في يوم من الأيام على قوم بجوار قومها وأكلت طعامهم وزادهم ودجاجهم، وعندما لحقوا بها وطلبوها اختبأت في مرابع قومها.اشتكى القوم المتضرر إلى من له الأمر فحكم على قوم براقش بدفع تعويض عما اقترفته، لكنهم كانوا فقراء لا يستطيعون دفع ما حوكموا به، فعزموا وقرروا الهروب وعلم القوم الذين يطالبونهم بما قرروا عليه فلحقوا بهم وعندها اختبأ قوم براقش عن الأنظار حتى لا يرونهم، وطار طير من عشه بجانبهم فهجمت عليه براقش وهي تبنح، فسمعوا نباحها وهجموا عليهم فقتلوا الكلبة وأسروا صاحبها. أمثال أهل الخليجمن أمثالنا في الخليج هناك الكثير منها والذي مازال يتداول إلى اليوم وله من القصص الطريفة التي عرف بها ومنها: أبو طبيع ما يجوز من طبعه، إذا بغيت صاحبك دوم حاسبه كل يوم، إذا حبتك عيني ما ضامك الدهر، إذا صار رفيجك حلو لا تاكله كله، لي طاح الجمل كثرت سكاكينه، إذا طبع المحمل دوس على تريجه، إسأل مجرب ولا تسأل طبيب، إش حادك يا مسمار قال المطرقة، اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب، اضبط من ساعة الملا، تغدينه والعشه على الله، يود مينونك لا ييك أين منه، اكل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس، انطر يا حمار لما يجيك الربيع، انفخ يا شريم قال ماكو برطم، الباب إلي يجيك منه الريح سده واستريح، بات مظلوم ولا تبات ظالم، بغاها طرب صارت نشب، يبغى يكحلها عماها، تجيك التهايم وإنت نايم، ثوب أطول منك يعتك، خبز خبزتيه يا الرفله إكليه، شبعونا طراقات وشبعناهم شتايم، طارت الطيور بأرزاقها، عومة مأكولة ومذمومة، كثر الدق يفك اللحام، اللي بالجدر يطلعه الملاس، اللي ما يطول العنب يقول حامض، اللي ما يطيع يضيع، اللي ما يعرف الصقر يشويه، عنز لو طارت، قال تيس قال حلبه، ما يمدح السوق إلا اللي ربح فيه، اللي ماله أول ماله تالي، كلا يرى الضو صوب قرصه، اللي يده في الماي غير اللي يده في الضو، اللي هذا أوله ينعاف تاليه، اللي يجي من الله حياه الله، ما تعينك إلا يمينك، مايحك اظهيرك الا أظفيرك، مخروش طاح بكروش، وهناك الكثير من الأمثال التي كانت تظهر في حاجتها عند الناس وتكون حلاً للعديد من الخلافات بينهم. مجامع أم معاجم؟يقول عبدالغني أبو العزم في كتابه «الأمثال مجامع أم معاجم..؟»: يعتبر المثل ظاهرة فريدة ومتميزة في الآداب العالمية، نظراً لطبيعته اللغوية والتركيبية، وإيجازه الشديد ودلالته العميقة، إضافةً إلى أنه خلاصة تجربة يعبر عنها بالرمز أو الإيحاء أو الإشارة المباشرة في شتى ميادين الحياة اليومية، ويعالج حالاتها من خلال الوقائع والعادات والتقاليد والممارسات، وهو بكل صيغه يظل معبراً عن حكمة الشعوب، وخلاصة تجاربهم، ورؤيتهم للأشياء المحيطة بهم، وما بأنفسهم وخباياهم، وقد أبرز الترمذي طبيعة الأمثال بقوله على أنها: «نموذجات الحكمة لما غاب عن الأسماع والأبصار لتهدي النفوس أدركت عياناً» وهي بالنسبة إليه «مرآة النفوس».فقد اهتم العديد من علماء اللغة بجمع الأمثال، واستطاعوا الإحاطة بعدد هائل منها عبر العصور مع بعد نظر بمضامينها، وهذا ما عبر عنه ابن عبد ربه بقوله: «ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأمثال التي هي وشي الكلام وجوهر اللفظ، وحلي المعاني والتي تخيرتها العرب وقدمتها العجم ونطق بها في كل مكان، وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها، حتى قيل: أسير من مثل». توضح هذه الرؤية الثاقبة القيمة التعبيرية للمثل على صعيد الآداب العالمية، وتضعه في أعلى مراتب التعبير شعراً وخطابة، وإذا ما تصفحنا عناوين الكتب القديمة الخاصة بالأمثال منذ القرن الثاني للهجرة، فإننا نجدها محصورة في: أمثال العرب، مجمع الأمثال، جمهرة الأمثال، الفرائد والقلائد، كل هذه العناوين تحيل على الجمع بما فيها الجمهرة لأبي هلال، وهو بدوره يحيل بشكل أو بآخر على جمهرة ابن دريد باعتباره معجماً لغوياً جاء تطويراً لمعجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي. علامَ اعتمد الجمع؟هناك منهجية معينة اتبعت في هذا الصدد؟ لقد عرف جمع الأمثال خلال القرون الخمسة الأولى للهجرة تطوراً مرحلياً تجلى في ثلاثة اتجاهات:- الجمع والتدوين - التصنيف الموضوعاتي - التصنيف المعجمي «أي الترتيب حسب حروف المعجم».من أوائل الكتب التي أشارت إليها الفهارس والمصادر اللغوية، كتاب أمثال العرب لعبيد بن شرية «ت 81هـ» وكتاب أمثال العرب للمفضل الضبي «ت 171هـ» الذي اهتم بتفسير السياق الذي جاء فيه المثال مع شرح ألفاظه مثل «أسعد أم سعيد» و»إن الحديث لذو شجون» وكتاب الأمثال لمؤرج بن عمرو السدوسي «ت 195هـ»، لقد اهتمت أغلب الكتب الأولى بالشرح والتعليق اللغوي على «أسماء غير معروفة أو تشير إلى أحداث مجهولة، أو تجيء بتعبير غير مألوف، أو صياغة نادرة الاستعمال، فيكون هذا كله مجالاً متسعاً لاجتهاد النحاة وإظهار علم اللغويين وافتتان الرواة والقصاص».ويعد التصنيف الموضوعاتي من أهم المناهج التي اعتمدها العلماء العرب في تصنيف العلوم في عدة مجالات، منها الحديث والفقه واللغة والمعاجم، وليس من المستغرب أن يظهر هذا النوع من التصنيف باعتباره «أول تصنيف علمي نهجه علماء الأمثال العرب وأن يكون سابقاً على التصنيف المعجمي الألفبائي»، إلا أننا لا نستطيع تأكيد عدم ظهور كتب في الأمثال اعتمدت على الترتيب الألفبائي في المرحلة الأولى، وأن يكون هناك تداخل في المراحل كما هو الشأن في تطور ترتيب المعاجم العربية، إذ إن ظهور معاجم لغوية ذات مناهج مختلفة في الترتيب قد عرفت تداخلاً فيما بينها، وليس هناك تسلسل مرحلي بكل منهج على حدة، وعلى سبيل المثال وجدنا كتاباً لمؤلف مجهول رتبت فيه الأمثال أبواباً وحسب الترتيب الألفبائي وقد بدأه بقوله: «باب ما جاء من الأمثال أوله ألف على مذهب الكتاب أو همزة على مذهب النحويين، ما جاء على أفعل مع الباء، ثم التاء، ثم الثاء، ثم الجيم إلى آخر الحروف الهجائية»، أي جعله مرتباً على حروف الهجاء.لقد اعتمد تصنيف الأمثال حسب الموضوعات منذ أواخر القرن الثاني وبداية القرن الثالث الهجري على منهجية دقيقة أدت إلى إبراز مضامينها في مختلف مجالات الحياة، وإخراجها من كتب التاريخ والفقه والنحو والمعاجم والطب والفلسفة والجغرافية والفلاحة والرواية، الأمر الذي أظهر ضخامتها ومتانتها وقيمتها العلمية، وأول من نهج هذا النهج هو أبو عبيد القاسم بن سلام «ت 224هـ»، في كتابه الأمثال وهو أحد كبار علماء اللغة والحديث في عصره، وإذا كان حسه اللغوي قد قاده إلى استكشاف مادة الأمثال والتمييز بين مستوياتها فإنه تمكن أيضاً من استكشاف ما تضمنه من أبعاد أدبية وفنية في مختلف موضوعات الحياة، إذ جعل كتابه أبواباً «بذكر المواطن التي يضرب فيها المثل من الأمثال» وقد بلغت تسعة عشر باباً، كل باب يتضمن موضوعاً بعينه (صنوف المنطق ومعائب المنطق ومساوئه لرجال - الأقوام - الأقربون - الأخلاق - الجود - المجد - الخلة والإخاء - الأموال والمعاش - العلم والمعرفة - أهل الألباب والحزم - الحوائج - الظلم - المعائب والذم - الخطأ والزلل - البخل - الجبن - مرازى الدهر وأحداثه - جنايات الدواهي العظام). لقد اعتنى القدماء بجمع الأمثال، مع وجود العديد منها في كتب اللغة والأدب، وما كان يرويه الرواة أو النحاة لتدعيم آرائهم اللغوية، حيث كان الغرض منها تأكيد «صحة اللغة وإقامة الإعراب، وهذا يستلزم ضرورة أن يكون المثل قديم العهد صحيح النقل». ولاشك أن الرواة لم يكونوا يهتمون بالأمثال السائرة والمتداولة عند العامة لأن الهاجس اللغوي وسلامة اللغة كانت تتحكم في تحديد معيار المثل و«لم يأخذوه من أفواه العرب في حياتهم اليومية وحديثهم العادي بقدر ما أخذوه من نصوص الأشعار العربية القديمة التي بذلوا الجهد في روايتها وتدوينها»، ومع هذا التأكيد هناك العديد من الأمثال تخرج عن هذا السياق وإن احتفظت بتركيب لغوي سليم وفصيح، ونجدها في أغلب المؤلفات القديمة، ويكفي أن نعود إلى مقدمة أبي هلال العسكري لنستشف من خلالها أن عملية الجمع بالنسبة للمؤلفات التي وقف عليها وأخذ منها، كانت تمتد إلى كل ما يمت إلى المثل بصلة بغض النظر عن طبيعته اللغوية، إذ يقول: «وميزت ما أورده حمزة الأصفهاني من الأمثال المضروبة في التناهي والمبالغة، وهي الأمثال على أفعل من كذا، فأوردت منها ما كان منها عربياً صحيحاً، ونفيت المولد السقيم ليبرأ كتابي من العيب الذي لزم كتاب حمزة في اشتماله على غث من أمثال المولدين وحشو الحضريين، فصارت العلماء تلقيه وتسقطه وتنفيه».وواضح من كلام أبي هلال العسكري أن مجتمع العلماء مجمع على إبقاء المكتوب عربياً فصيحاً، وإذا ذكر بعض أمثال العامة في ثنايا الكتاب فإنه يذكرها عرضاً وبصيغة فصيحة، وهذا ما فعله ابن عبد ربه والبكري.وتظل الأمثال مادة جميلة سواء كانت في الأدب العربي أو الشعبي فهي لابد لها ستثري الفكر والمكتبة العربية وستكون خير عون كما كانت لنا لأجيال تبحث عن جذور الكلمة وتاريخ كل بيوتاتها التي عاشت فيها ودرست وتوسعت ثقافاتها وقضت من خلالها على أميات أجداد ربما رسموا الخطوط الأولى للمثل الشعبي وتداوله في لغاتنا ومسار حياتنا اليومي.