كتب – عبدالرحمن صالح الدوسري:نواصل التعرف على مشوار د.عيسى أمين.. الطالب الذي تفوق في الابتدائي بمدرسة رأس الرمان ليحوز الترتيب الأول على البحرين، بعدها على مستوى الثانوي كان أيضاً الأول على البحرين، وخرج للدراسة في القاهرة.. وعاد بشهادة الطب، ليتحول بقدرة قادر إلى طبيب القرية ما أكسبه محبة لم تكن بالحسبان.. ويطير إلى «أيرلندا» ليدرس ويُدرس ويتزوج.. ويعود إلى بلده بعد أن كان جسراً للكثيرين من أبناء وطنه ليدرسوا الطب في أيرلندا.خرجنا من دفاتر ودروب الجراحة.. إلى التاريخ.. ليحدثنا عن هذا الدفتر الجديد الذي شغل باله كثيراً وألف وترجم فيه الكتب.. ومازال يعشق أن يكون قريباً منه من خلال الندوات والمؤلفات. يبدأ حديثه في الفصل الثالث من الحوار.. وتحديداً عن التاريخ، يقول د.أمين: «التاريخ عبارة عن أحداث تراكمية، أهمل الكثير منها.. ودون البعض، المدونون هو ما نقرأه ونسميه تاريخ ، إنما في نفس الوقت، هناك أحداث كثيرة حصلت ولم يتم تدوينها، فأنت عندما تتحدث عن التاريخ إنما تتحدث عن التاريخ السياسي لبلد، بل الموازي فهناك التاريخ الاجتماعي، والتجاري، والاقتصادي، التعليم، مؤسسات المجتمع المدني، والحركة العمالية والزراعة، إذن هناك الكثير من الأشياء التي تسجل باسم التاريخ لكن للأسف لا يتم تدوينها، وبالتالي تتحول إلى مواضيع مهملة تستدعي بأن يقوم باحث لمحاولة تجميعها مستقبلاً».التاريخ.. والتدوينعندما نتحدث عن التاريخ فإننا نتحدث عن شيء مدون وجاهز ووثائق ومعلومات مبعثرة، الإشكالية في الموضوع الجاهز هو السؤال من الذي كتب هذا الموضوع الجاهز؟ وكيف تم اختياره من ضمن كل ما ترك مكتوب؟ وهل كان يكتب بنظرة موسوعية ؟ أم أنه يكتب بنظرة اختيارية ضيقة ؟ أعني أنه يختار عنواناً معيناً يركز عليه دون الموضوع في محاولة لإيصال الفكرة التي يريدها. في التاريخ العربي الإسلامي كان المؤرخون قد دونوا الوقائع وتدوين هذه الوقائع، دائماً كان مرتبطاً بالحكم، ولذلك أصبحنا على مدى طويل من تاريخنا ندرس فقط التاريخ السياسي، سواء كان هذا التاريخ للبحرين أو إنجلترا أو فرنسا أو إيطاليا أو حتى مصر، إنما في الوقت نفسه نحن لا نعلم أي شيء عن الحركة الأدبية أو الشعراء، أو الثقافة، أو الموسيقى أو النهضة العمرانية، أو المسرح، لأن التدوين الذي نقل إلينا هو تدوين من دولة إلى دولة.إلا أن التاريخ الآن أصبح علماً موسوعياً، وهو لا يتبع كلية أو قسم الآداب، لكنه يتبع العلوم لأنه علوم إنسانية، في منهجها تتبع الأسلوب العلمي، في الفحص والتدقيق، ولذلك عندما تقرر كتابة التاريخ، لنقل رسالة مقدمة سواء كانت ماجستير أو دكتوراه، يطلب منك التاريخ الموثق، فالرواية لا تقف وإن كان لها إسناد عن فلان وفلان، لا تقف في مجال البحث التاريخي، لأنه بالإمكان تأويلها وتغييرها.كذلك الوثيقة الأصلية التي لم يتم تزويرها أو استقطاع منها أو تحريفها، هي لا تقف في مجال البحث العلمي، وتجد دائماً من يقول «يجب إعادة كتابة التاريخ «أنا لا أعتقد أنه بالإمكان إعادة كتابة التاريخ، لأن التاريخ تمت كتابته، لكن الأصح هو «إعادة قراءة التاريخ»، قراءة موسوعية وغير متحيزة، بعيدة عن التعصب. وإن نقوم بالنظر للموضوع الذي سنعيد كتابته بنظره شاملة، مثلاً في الآونة الأخيرة وبعد الأحداث التي تمر بها البحرين، تصدر بعض الكتب، لاشك أنها تحتوي وشائق أصلية، إنما هي اختارت موضوع معين يسند العنوان الرئيس، فتقوم بعرض هذه ألوثائق وتتجاهل وثائق أخرى، كذلك الشخص الذي ينقل لك التاريخ يقوم بإعادة كتابة التاريخ، وليست قراءته ويبدأ من تاريخ سنة معينة، والتاريخ حركة إنسانية منذ تعلم الإنسان الكتابة والقراءة وهو مدون، فما الذي يمنع من تدوينه بحقائقه وأحداثه، ولماذا أقوم بأخذ ما يعجبني وأترك الباقي وأتجاهله، مثال على ذلك عندنا تاريخ البحرين أو دول مجلس التعاون الخليجي، لها مراجعها ولكن للأسف الكتاب المحليين لا يمتلكون الاجتهادات في هذه المراجع وإن كتبوا فإنهم يكتبون عن رواية قيلت هنا وهناك دون العودة إلى تاريخ الواقعة التي ينقلونها وذلك لأنهم يريدون تأكيد شيء معين فقط .المخبر البريطاني في المنطقةإن الحديث عن دخول البرتغاليين إلى دول الخليج في القرن الخامس عشر وبداية السادس عشر ، بدأت بجمع وثائق ومراسلات من القادة البرتغاليين في المنطقة الذين كانوا في هرمز أو بندر عباس، أو البحرين أو مسقط أو في صحار، هذه الرسائل لم تكن فقط تحوي معلومات تجارية، لكنها أيضاً تحوي معلومات سياسية وأحياناً تجدهم يتحدثون أيضاً عن الأمور الصحية، وعن السفن وأعداد التجار وأسماء الشخصيات المشهورة بالمنطقة، وبالتالي أصبح لنا نحن الخليجيون أرشيفاً في البرتغال في «لشبونة» يحتوي على مائة سنة من تاريخ الخليج، وكان العثمانيون، على الساحل الشرقي من الجزيرة العربية والبصرة والكويت، وبالتالي أيضاً لهم مراسلات، من باشا البصرة، وباشا بغداد، وباشا الموصل، إلى الباب العالي، تذكر حوادث، ومعاهدات تجارية، واتفاقات ومراسلات بين شخصيات مهمة في المنطقة، وبالتالي أيضاً أصبحنا نمتلك أرشيفاً كاملاً عثمانياً، الهولنديون أيضاً عند ما نزلوا إلى الخليج في جزيرة «جسك» وأسسوا لهم مركزاً تجارياً، لهم مراسلات عن الخليج. الألمان كذلك عندما زاروا البحرين في بداية القرن الماضي وأسسوا شركة، لهم مراسلات عن البحرين، الرحالة الذين مروا بالمنطقة، كلهم لهم كتب وصور ورسوم، عن تاريخ المنطقة، ولكن أحسن من وثق عن المنطقة وموجود اليوم هو التوثيق البريطاني، كان ذلك عندما دخل الإنجليز المنطقة في 1820، بعد معاهدة السلم البحري، مع حكام ساحل الإمارات، وسموه «الساحل المتصالح» مع حكام البحرين الشيخ عبدالله والشيخ سلمان أبناء أحمد الفاتح، وقعوا الاتفاقية، والتي كانت تنص على وجود مندوب للحكم البريطاني في الهند، لكل هذه المناطق ويقوم بإرسال الرسائل، سواء كانت يومية أو أسبوعية أو شهرية، وأن تكون المعلومات وافية عن البلد التي يسكنها هذا المندوب، وكان يطلق عليه «مخبر»، وهذا المخبر يجب أن يحمل الجنسية الهندية، أو الفارسية، أو أنه مواطن محلي لكن يمنح الحماية البريطانية، وتتجمع الرسائل من كل مناطق الخليج في دار المقيمية في بوشهر، ومن بوشهر تذهب إلى كلكتا ومنها إلى لندن، بذلك أصبح عندنا أرشيف في الهند وآخر في بريطانيا لجميع الحوادث السياسية، الاقتصادية، التجارية، الأهلية والاجتماعية كل هذه الحوادث أصبحت موجودة ومدونة من ضمنها رسائل بالعربية واتفاقات، وعرايض موجودة في بريطانيا في «أرشيف الخليج من العام 1820 إلى 1972» وهو تاريخ مغادرة الإنجليز منطقة الخليج العربي.إذن كل ما سبق وذكرناه هو مادة تاريخية، هذه المادة تعادلها مادة ثانية كتبها المبشرون الأمريكان عندما قدموا إلى الخليج وأقاموا لهم مركزاً في البحرين، والبصرة والكويت، ومسقط وفي نهايات المراحل في قطر.وكانوا يصدرون نشرة دورية اسمها «العربية المهملة» ويعنون بذلك الجزيرة العربية المهملة، هذه النشرة كانت في البداية ترسل بخط اليد بعدها تطورت الأمور وبدؤوا طباعتها في مسقط بعد إحضارهم المطبعة، ومن ثم يتم إرسالها إلى نيويورك، وهناك أرشيف موثق في نيويورك عن دول الخليج من 1899- 1956 ، ينقل كل الإخبار في المنطقة الصحية، والاجتماعية، والسياسية والبيئية، هذه المصادر تشكل بحث تاريخي للباحثين في المنطقة، والآن عندما تتحدث عن إعادة كتابة التاريخ الجديد عليك دراسة هذا التاريخ كله، لأنه مكمل لبعضه البعض، هو تاريخ اجتماعي وسياسي، اقتصادي وتجاري، بالإضافة أيضاً إلى تاريخ البلديات، الحرف الشعبية، المطالب الشعبية العرايض الشعبية، طريقة التفكير بالإضافة إلى الصور والخرائط والمستندات، إذن أنت عندما تتحدث عن بحث تاريخي تتحدث عن مصادر موثقة، ولا مجال للتشكيك بأن الإنجليز قد دسوا هذه المعلومة أو الوثيقة، هذا غير صحيح لأنها وثائق تاريخية وموجودة لغاية الآن في متاحف بريطانيا وهي وثائق سرية، وكل خمسين سنة يسمحون بنشر وثائق منها، وهي التي لا تمس الأمن الوطني البريطاني، وبذلك فهي تنشر للجميع، ومن هنا أصبح هناك أرشيف كامل عن هذه الوثائق التي تحدثنا عنها.خلق الكياناتعندما تقرأ هذه الوثائق أنت لا تقرأ التاريخ فقط، لكن أيضاً تتوصل إلى كيفية خلق الكيانات في منطقة مجلس التعاون كيف تم بناء هذا الكيان وكيف تحدد جغرافياً؟ وسياسياً من حيث السلطة الحاكمة، وتحدد أهلياً من حيث التركيبة السكانية الموجودة، فليس هناك أحد باستطاعته أن يستثني أحداً وباستطاعته أن ينفي وجود أحد أو يلغيه إذا قام بدراسة التاريخ، إضافة إلى الشواهد التاريخية وهي الآثار واللقي الأثرية التي تثبت تاريخ مدون ترك، كتذكار للجيل الذي سيأتي لاحقاً .إذن نحن لا نكتب التاريخ من جديد، إنما نقرأ التاريخ من جديد، على أن تكون القراءة شاملة، دون أي تحيز أو محاباة طرف على الآخر فهناك في التاريخ سنجد الموجب والسالب وبالتالي علينا أن نستخلص منه الواقع الحالي الذي نعيشه، فإذا تحدثنا عن أن التاريخ هو أحداث تراكمية إذن وضعنا اليوم مبني على أحداث من سبقونا ونحن هنا نكمل تلك الأحداث وهكذا. وإذا تحدثت عن أني اليوم دكتور متخصص في جراحة الكلى، علينا أن نتساءل من بدأ في هذه الجراحة ومتى وسنة كم كانت ومن هو هذا الجراح الذي كان المؤسس لهذه الجراحة.إذن سيرجع الفضل لذلك الشخص المؤسس ويتسلسل الموضوع لمن أتى بعده.. وبعده.. وبعده.. إلى هذا اليوم، والذي سيأتي من بعدنا .» الطب خدمة إنسانية لا تسأل عن مذهب ولا ديانة ولا جنس لا يمكن من خلالها أن تنفي أحداً .وفي أوروبا لا يسألونك هذه الأسئلة أنت هنا لخدمة الإنسانية، ممكن أن تعمل مع شخص ليس من ديانتك لكنه يفيدك بأروع ما يمكن من خلال تدريبه لك، وهذا ما حصل معي عندما كنت أدرس الطب في أيرلندا، ذلك لأنه يعتبرك إنساناً ومن حقك أن تتعلم وهو ناتج إنساني مثل ما هو الفن والموسيقى والأدب، فأنت لوعزفت معزوفة موسيقية ستجد جمهورك من كل الأجناس في العالم يقفون حولك ينصتون لهذا العمل تجمعهم الموسيقى وإن تعددت دياناتهم، لكن عندما تلقي خطاباً سياسياً ستجد المهللين لهذا الخطاب هم فقط من يقف بصفك، إذن ستجد القاسم المشترك بين شعوب الأرض هو التاريخ والآثار والموسيقى والفن والأدب حتى الحدائق والزهور، اذن ما الذي يجعل مواطناً أوروبياً يذهب في رحلة إلى ماليزيا ذلك لأنه يبحث عن الشاطئ والبحر والشمس والزهور والحدائق، والمعاملة الطيبة، فرغم أن أغلب ما يبحث عنه يكون موجوداً في بلده إلا أنه يبحث عن القاسم المشترك بين البشر، فالتاريخ ينمي هذا الجانب الإنساني بين الشعوب، وهو لا يعترف بالحدود بين البشر، حتى اللغة ترى أن مصادرها هي الطقوس طقوس الإنسان في حياته الموروثة، الأغاني إرث إنساني فقد بدأت من واحد غني والثاني قلده والثالث طور هذا الإرث، هذا ما نود أن نؤكد بالتركيز عليه عندما نقرأ التاريخ فهي القواسم المشتركة التي تجمعنا كمواطنين وتحدد هويتنا، والتركيبة السكانية، والسلطة المسؤولة عن هذه التركيبة، والعلاقة بين الجميع.عندما تقرر تدريس التاريخ ، ما هو التاريخ الذي تقرر تدريسه فقد درسنا تاريخ مصر، إنجلترا، إيطاليا، لكن لم ندرس تاريخنا للأسف، فكل المكتوب عن تاريخ البحرين هو عبارة عن أبحاث من أشخاص واجتهادات، فهناك من كتب عن الأوقاف ومن كتبوا عن البلديات وآخرون عن المرور، هذا ما يجعلني أتساءل أين هو الأرشيف الوطني؟ الذي يفيدني ككاتب وأرجع له في كتاباتي للتاريخ وهو لن يساعدني كباحث فقط، لكنه أيضاً يثبت هذا الكيان الموجود، هذا الحراك الشعبي وهذه التركيبة، فمثلاً هناك وثائق في متحف البحرين الوطني عن بيع أراض في منطقة عالي، في القرن السادس عشر في الفترة الهرمزية، من يذكر هذه الفترة من التاريخ، فهناك بيع وشراء أراضٍ مختومة والمبلغ والحدود، ما يعني أن هناك كانت دائرة توثيق وأشياء قانونية ملزمة، وكانت هناك عملة متداولة وكان هناك شهود إذا كان هناك حقبة فيها ناس يشترون ويبيعون هذا أيضاً يعتبر كمصدر للتوثيق للأراضي، بالإمكان استخدامه كدراسة.من يكتب التاريخ؟بالعودة للحديث عن من يكتب التاريخ؟؟. هذه إشكالية كبيرة، فالتاريخ بالإمكان أن يكون أطروحة أكاديمية، وبالتالي بإمكان الإنسان أن يتحدث عن تطور المرأة وتاريخ تطورها، هذا جزء من تاريخ الوطن، ويأخذ عليه درجة علمية، ويصبح كتابه مرجعاً، لأي دارس لتاريخ وطن، الثاني يكتب عن الحركة العمالية، ويوثقها، هذا أيضاً يصبح جزءاً من تاريخ وطن، التاريخ السياسي، والاجتماعي، والزراعي، التجاري، العمالي، التعليم، التمريض، الاقتصاد، يتم تجميعه تحت مسمى «تاريخ وطن». إذن لابد من وجود أرشيف يجمع كل هذه المعلومات في مركز يشرف عليه متخصصون، فهو لن يقدم لك التوثيق المحلي فقط، لكنه يربط بالتوثيق الخارجي وبالمراكز الخارجية والعالمية.. في هذه الحالة سنتحدث عن قراءة التاريخ من جديد، ولا نكتب التاريخ بل نقرأه.. عليك أن تفتح خزائن التاريخ للجميع واترك لهم الفرصة لأن يصلوا لهذا التاريخ، فكثير من القضايا تم حلها عن طريق رواية، حتى لو كان فيها إسناد عن فلان وفلان وفلان أنه قال، حتى الأحاديث النبوية فيها الكثير مرفوض لأن الإسناد غير صحيح ولم يتفق عليه الصحابة أو المجموعة ذات الاهتمام بالأحاديث، حتى في التاريخ الإسلامي تجد أن الفحص والتوثيق كان مهماً، وبالتالي لا يمكن أن تترك المجال لأي كان ليكتب ما يريده وأن يكون هو فقط صاحب الرأي السديد والآخرون على خطأ.بعدها هناك الباحث التاريخي الذي دائماً يتحدث عن الماضي ونحن دائماً نرتبط بالماضي، فدائماً نعود للماضي «بيوت لول، أيام لول، فرجان لول، ليس لول، أكل لول» فدائماً الماضي عند كل الشعوب هو الشيء الجميل، هذا لا يعني أنه لا يوجد شيء غير جميل ومؤلم لكنه لا يترك لأنه مؤلم، وبالتالي لا نأتي على ذكره، ماعدا في بعض التدوين الرسمي يذكر لك الحوادث الرهيبة، يعني مثلاً في الوثائق البريطانية في وثائق كاملة عن «الحفرة السوداء في كلكتا»، عندما حاصر الهنود الإنجليز وسجنوهم، وقامت القيامة في بريطانيا، كيف يقوم الهنود بمحاصرة وسجن الإنجليز، هذه المدونة موجودة بالكامل في بريطانيا، أيضاً هزيمة الإنجليز في جنوب أفريقيا في «ما فكن» أو في الخرطوم، السودانيون أتباع المهدي يهزمون جنرالاً إنجليزياً «جوردن باشا» بعدها يأتيك المؤرخ المكلف، فلان عليك أن تكتب عن هذه الحقبة من التاريخ لكن بشرط أن تتجاوز هذه الأحداث وهنا مسموح.. وهناك ممنوع، ويتسلم العنوان والمقابل ولا يهم إن غير في التاريخ.إذن لا يمكن أن تقول إنني أمتلك كل التاريخ ولا يمكن أن تشكك بالوثائق البريطانية فمثلاً الوثائق البريطانية عليك أن تقرأها بذكاء وتخرج بها ما تراه إيجابياً بالنسبة لك على سبيل المثال هناك وثيقة في الوثائق البريطانية تقول «إن المرحوم الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، يطلب في 1924 ، من حكومة الهند السماح بتأسيس برلمان، منتخب من عامة الشعب»، هذه الوثيقة المفروض نعتز بها في البحرين لأن هذا الطلب حضاري جداً في تلك الفترة، وهذا دليل على أن الحاكم يثق في شعبه، وأن شعبه يقف بصفه، بينما هناك بعض من يسمون أنفسهم مؤرخين، كتبوا عن شخصيات أنانية حولوهم إلى أبطال وطنيين، ورموز للمقاومة والمعارضة وبنوا عليهم أمجاد، فأنت عندما تفتح خزائن التاريخ للجميع ويقرأها الجميع هنا فقط نتحدث عن إعادة بناء كتابة التاريخ، وتزيل كل الشوائب والادعاءات.تاريخ الغوصبالعودة للحديث عن منطقتنا.. نجد أن تاريخ الغوص مثلاً،لا توجد اجتهادات أو دراسات توثق هذه الفترة، ليست فقط كمهنة لكنه إرث قائم على مدى أربعة آلاف سنة، تركيبة اجتماعية كاملة، عملية اجتماعية كاملة ارتبطنا من خلالها بكل دول العالم ، سيلان كنا فيها، الهند كنا فيها، سنغافورة كنا فيها، فرنسا، لندن، برلين، سواء كان ذلك من خلال الصدف أو اللؤلؤ، هذه أيضاً لها مجال واسع للدراسة، تراها غير موجودة هناك فقط كتب واحد منها بالفارسي ترجمته إلى العربي، وكتاب واحد أو اثنين في البحرين، وانتهى فالغوص مهنة عاش عليها الخليج إلى ما قبل انهيار سوق اللؤلؤ في الثلاثينات من القرن الماضي، لا تجد من أخذها ودرسها بتمعن وخرج بها في دراسة وافية وأخرج منها التركيبة الوافية عن مجتمع الغوص.حتى الإرسالية الأمريكية التي تحدثت عنها تجد الكثير من الدراسات تهاجمهم رغم أنهم أفادوا كثيراً المنطقة أطباء وجراحين على أعلى المستويات تخرجوا من أمريكا، وتركوا دولهم المتقدمة وفضلوا على ذلك العيش في الخليج لا سكن ولا ماء، ورغم ذلك كانوا الناس يهاجمونهم ويرمونهم بالقمامة وينادون بمحاربتهم، وكانوا بالمقابل يقدمون خدمات امتدت إلى مائة سنة، خدمات طبية وتعليمية ومازالوا يقدمون في بعض المناطق من ضمنها البحرين، إذن لماذا نقلل من أفضالهم، وعملهم الإنساني، كلها خدمات إنسانية. والآن طالما أننا نتحدث عن التاريخ فكل ما يرمز إلى تاريخ البلد وإيجابيات هذه البلد علينا بالمحافظة عليه، فإذا ذهبت إلى بريطانيا ستجد المبنى الذي سكنه الكاتب قبل خمسمائة عام صحيح أنه هدم لكنه تم إعماره بالصورة التي كان عليها وتوضع لوحة على المبنى الجديد تقول «إن فلان الفلاني كان يسكن هذا المبنى» أو أن يقام له تمثال، أو كلمة أو حتى بيت شعر يدل على مدى التقدير لهذا الكاتب الذي خدم بلده، مبنى بلدية قديم يحافظون على شكله أو صالة اجتماعية يتم المحافظة عليها، بيت شخصية مهمة سواء كان كاتباً أو فناناً أو سياسياً يتم تحويله إلى متحف.فأنت عندما تزور هذه المواقع بالنظر تجد نفسك تقوم بمسح تاريخي وأنت تسير في الشارع، مثل حفظهم للسجلات في المؤسسات سواء كانت طبية، أو أهلية، من أسسها من كان فيها وما هي إيجابياتها، هذا يعني التكامل والاعتراف بفضل الآخرين... وللحديث بقية «التراث.. والتاريخ.. والمدون والمروي» .. وأول عملية للعيون في حوش مدرسة عائشة أم المؤمنين».