كتب ـ عبدالرحمن صالح الدوسري:قبل أن تحصد الكوليرا أرواح 5 آلاف بحريني صيف 1893، شهدت البحرين افتتاح أول مركز طبي في 7 ديسمبر 1892، وهو وباء لم يستطع المركز مواجهته بإمكاناته المحدودة.وبعدها طالبت البعثة الأمريكية برفد أطقمها بأطباء مختصين، ليدخل أو طبيب مختص البلاد سنة 1894 وهو جمس ويكووف، قبل أن تفتتح أيمي ويلكس أول عيادة لمعالجة النساء مايو 1896.وشهد يوم 26 يناير 1903 افتتاح مستشفى مايسون التذكاري، وبعدها بعامين افتتح مستشفى فيكتوريا في منطقة رأس رمان. البحرين والحصبةيواصل د.عيسى أمين حديث الذكريات عن تاريخ البعثة الأمريكية في البحرين، وتأسيس أول مستشفى على أرض المملكة، والخدمات المقدمة من البحرين لشقيقتها السعودية، وكيف كان د.ديم يجوب الصحراء السعودية على ظهر ناقة في طريقه إلى «بريدة»، لإجراء عمليات جراحية لمرضى يفترشون حوش أحد البيوت، لعدم وجود أماكن مخصصة وأسرة ينامون عليها.ويتحدث عن د.صموئيل زويمر بعد أن فقد بناته بالحصبة في البحرين، ودفنهما في المملكة وواصل العمل هو وزوجته رغم الظروف الصعبة، قبل أن يفقد زوجته ويسافر إلى مسقط مستكملاً مشواره الإنساني النبيل.ويقول إن زويمر صاحب مدرسة «العبيد المحررين» مرض في مسقط وتوفي في نيويورك.الإرسالية الأمريكيةيبدأ عيسى أمين فتح دفاتر الذاكرة في الحديث عن الطب والخدمات الطبية في البحرين بصورة خاصة ودول مجلس التعاون الخليجي بصورة عامة، ويأخذنا إلى البداية في الولايات المتحدة الأمريكية وتحديداً في نيوجرسي «في عام 1888 وفي دوائر الكنيسة الإصلاحية الهولندية، تقدم البروفيسور جون لاننج المولود في دمشق، حيث كان والده يعمل في المجال الكنسي بمصر والشام، بفكرة تأسيس إرسالية أمريكية في الجزيرة العربية والمناطق المحيط بها».وشكل لاننج مع ثلاثة من تلامذته وهم جيمس كانتين وصموئيل زويمر وفيليب فيلبس، مجموعة لتقدم تصورها وخطة عملها في 3 يونيو 1889، للمجلس الكنسي الأعلى، بغية الحصول على موافقته ودعمه لإطلاق عمل الإرسالية في الأرض العربية «المهملة».ويقول أمين إن المجلس رفض المشروع مؤقتاً، بسبب فكرته الجريئة وكلفته المالية العالية، مع ذلك واصل أعضاء المجموعة العمل من أجل تحقيق هدفهم، وبدأ القس صموئيل زويمر بمزاولة الأعمال الطبية المساعدة في عيادة طبية في شارع بليكر في نيويورك، محاولاً التعلم والتأهل للخدمات العلاجية إذا ما تحققت الأمنية.وبعد إلحاح المجموعة وتصميمها وافق المجلس الكنسي الأعلى في 26 يونيو 1889 على فكرة إنشاء الإرسالية في الأراضي العربية «المهملة»، وبعد أسبوعين من ذلك الاجتماع عقد لقاء في فندق كنيسينكتون، الواقع في جادة الاتحاد في نيويورك، وكان القصد من اللقاء التبرع لهذه البعثة، وكان المطلوب التبرع بـ5 دولارات للشخص، والأمل كان كبيراً في الحصول على تبرعات فردية بمقدار 200 دولار.وحصلت البعثة على مبالغ تكفي للمرحلة الأولى من المشروع، إلا أن تبرع الآنسة كاثرين هالستد بمبلغ 5 آلاف دولار كان الحدث الأهم، ومعه بدأت العجلة في الدوران.ومع دوران العجلة بدأ تاريخ الطب في البحرين، وكانت البداية في 16 أكتوبر 1889 حين غادرت سفينة نيويورك متجهة إلى سوريا، ومن ضمن ركابها جيمس كانتين المهندس المدني والمتطوع للعمل في المناطق العربية.زويمر والصحراء العربيةفي 28 يونيو 1890 غادر صموئيل زويمر على متن السفينة «س س أوبدام» حاملاً كتاب الرحالة دوتي «الصحراء العربية»، وعلى موعد مع كانتين في بيروت لتعلم اللغة العربية أولاً.وفي القاهرة التقى زويمر وكانتين والبروفيسور لاننج، واتفقوا على اتخاذ عدن في الجنوب العربي بداية لنشط البعثة، وعن طريق السويس يبدأ كانتين الرحلة ويتبعه زويمر من عدن، وبعد عدة أشهر يتجه كانتين إلى بومباي.دخل زويمر اليمن في طريق عودته لاحقاً من بومباي، ولأول مرة يتوقف كانتين في البحرين، ومنها إلى بوشهر ثم إلى البصرة، ليؤسس مع كانتين أول مركز للبعثة في ميناء البصرة.وكان موعد البحرين مع الطب الحديث ينتظر وصول أعضاء البعثة، في زيارات كان القصد منها دراسة أوضاع مناطق الخليج والحالة الصحية لكل منطقة.في أكتوبر 1892 اعتقد زويمر أن المدخل إلى الإحساء هو البحرين، وكانت تلك أول زيارة تركت انطباعاً جيداً لديه، لذا قرر مع كانتين اعتبار البحرين المقر الثاني بعد البصرة.أول مركز طبي في البحرينفي 7 ديسمبر 1892 عاد زويمر إلى البحرين، وخلال الزيارة افتتح أول مركز طبي يعالج فيه المرضى بالطب الحديث، في غرفة فوق مخزن بضائع مقابل ميناء المنامة وقرب مسجد في الواجهة البحرية للمدينة.وافتتحت أول عيادة خارجية لمرضى البحرين، وكانت الغرفة عبارة عن سكن ومطبخ وعيادة في نفس الوقت، وفي يناير من عام 1893 عرف الأهالي عن توفر هذه الخدمة.وأدرك زويمر بعد عدة أيام، حاجة البحرين لطبيب متخصص، وكانت المواجهة الأولى للأوبئة حيث تفشت الكوليرا صيف 1893 في البصرة، بينما فقدت البحرين 5 آلاف من مواطنيها نتيجة الوباء، وكان هذا الامتحان الأول لقدرات البعثة المحدودة آنذاك.واستطاعت البعثة رغم صعوبة الظروف أن توفر للبحرين طبيباً بالمشاركة مع مركز البصرة، وفي بداية عام 1894 جاء أول طبيب مؤهل للبحرين هو د.جيمس ويكووف، وكان تقريره الأول أن البحرين تعاني من مرض الملاريا والجدري.وفي مايو من نفس العام عولج 358 مريضاً جديداً، إلى جانب 626 من المرض المترددين على العيادة، بينما كانت معاناة الطبيب القادم من البصرة تتمثل بعدم وجود إمكانية إدخال المرضى للرعاية الصحية، وغياب الإمكانات الطبية لعلاج الحالات المتوسطة والمستعصية، أما أبرز ما واجه البعثة فهو عدم تعاون الأهالي ورفضهم تأجير منازلهم الشاغرة لأعضاء البعثة.وفي مايو 1896 عرفت البحرين أول ممرضة متخصصة في مهنة التمريض، حيث انتقلت أيمي ويلكس زوجة زويمر، بعد زواجهما في بغداد للإقامة في البحرين، ومع وصولها إلى البحرين وإقامتها في بيت البعثة بيت جمعة بن ناصر بوشهري «مدرسة عائشة أم المؤمنين لاحقاً»، افتتحت في هذا البيت أول عيادة لمعالجة النساء في البحرين، وأول مدرسة للبنات في المملكة.عائلة مايسون تتبرع لبناء مستشفىفي 11 سبتمبر 1900 وصل إلى البحرين الدكتور شارون ج . تومز، وبدأ في إجراء العمليات الجراحية بطريقة صحية وصحيحة، وبعد 3 أشهر كتبت د.ماريون تومز «زوجة د.تومز» أول تقرير لها من البحرين في صحيفة البعثة الرباعية إلى المجلس الأعلى في نيويورك، وكانت كلماتها حينذاك بداية مشروع مستشفى الإرسالية الأمريكية.وطالبت تومز بضرورة إنشاء مستشفى متخصص للمرضى في البحرين، وبينت في تقريرها كل الأسباب المؤيدة لهذا الطلب، وفي الأشهر التسعة الأولى أجرى الدكتور تومز وزوجته 64 عملية جراحية بالمخدر العام، بينما قام الدكتور تومز لوحده بمعالجة 9 آلاف مريض في عيادة الرجال، بينما بلغ عدد المترددين من النساء والأطفال على عيادة زوجته 1630.وفي 16 أغسطس 1901 دفعت البعثة 4 آلاف روبية للشيخ عيسى بن علي آل خليفة قيمة الأرض المشتراة لصالح بناء المستشفى، وكانت هذه البداية لمستشفى مايسون التذكاري «عائلة مايسون هي من تبرعت لبناء المستشفى في البحرين».وفي مارس 1902 وضع د.تومز الحجر الأساس للمستشفى، وألقيت الخطب في هذا الاحتفال باللغة العربية والإنجليزية، وبعد7 أشهر عادت الكوليرا إلى البحرين، واضطرت البعثة إلى إدخال المرضى في المستشفى الذي لم يفتح أبوابه بعد، إلى أن جاء يوم السبت 26 يناير 1903 حين تم الافتتاح الرسمي لمستشفى مايسون التذكاري.هكذا كانت بداية تاريخ الطب في البحرين والخليج، ورغم المعاناة والعزلة والبعد عن الوطن وصعوبة الاتصال وانعدام المأوى والمال، قدمت البعثة برجالها ونسائها هذا العمل الرائع المخصص لخدمة الإنسانية دون تمييز، مستشفى الإرسالية الأمريكية الذي خدم البحرين وعمان والشارقة والإحساء وعنيزة والرياض وبريدة وسواحل إيران، ومازال يقدم الخدمات بعد أكثر من 100 عام، كنموذج للإصرار والتفاني وحب الإنسان لعمل الخير للآخرين.أطباء قضوا بمنطقة الخليجيواصل د. عيسى أمين «بعد المستشفى جاءت الطريقة الميكانيكية في استخراج الماء، واستفاد مزارعو البحرين من هذه التقنية الجديدة، وجاءت المدرسة وساعة الميدان والسيارة والعجلة والكاميرا والبيانو».وكان المستشفى وسط حراك اجتماعي ثقافي روحي اشترك فيه أعضاء البعثة من جهة والمعارضون والمؤيدون والمتعاطفون من جهة أخرى، وعرفت البحرين التسامح والتعايش وكيف تستفيد من الطب الحديث والتعليم النظامي.ولبس أعضاء البعثة ملابس البحرينيين وشاركوهم الأكل والأفراح والأحزان، وسجلوا ورصدوا وكتبوا على مدى 6 عقود عن كل شيء، وأصبحت هذه الثروة المكتوبة مرجعاً مهماً لكل راغب في البحث أو الكتابة عن تاريخ البحرين.لم تخلوا البداية من التضحيات، إذ تخلى غالبية أعضاء البعثة عن مراكز مرموقة مادياً واجتماعياً، وجاؤوا يحملون رسالة المحبة والخدمة الإنسانية، تعلموا العربية ودرسوا وبدقة عاداتها وتقاليدها، وقدموا ودون مقابل ما احتاج إليه الناس من رعاية صحية، وكانت أكبر تضحياتهم فقدان عدد من الرواد الأوائل نتيجة للأمراض المعدية وأجواء مغايرة لتلك اعتادوا عليها في بلدانهم.كان أول الضحايا بيتر زويمر «توفي في 18 أكتوبر 1898 في أمريكا نتيجة مرض أصابه في عمان»، وكان بيتر مسؤولاً عن مدرسة العبيد المحررين، ومشرفاً على أعدادهم وتعليمهم وإعطائهم الحرية في الحياة.وفي 26 يونيو 1899 توفي جورج ستون في مسقط نتيجة ضربة شمس، وفي 7 يوليو 1904 توفيت روث زويمر الابنة الصغرى لزويمر، وبعدها بأسبوع توفيت كاثرينا الابنة الكبرى بسبب الحصبة والدوسنتاريا، وفي 25 أبريل 1905 توفيت أول طبيبة للبحرين د.ماريون تومز بحمى التيفوئيد، ولم تتمكن هذه الطبيبة من العمل في المستشفى الثاني للبعثة والذي عملت من أجله، ولذا أطلق عليه يوم افتتاحه مستشفى ماريون ويلس تومز التذكاري للنساء والأطفال في البحرين.وفي عام 1913 توفي الدكتور شارون توفر في عمان، أثناء تركيب أسلاك اتصال بين المركز في مطرح وعمان الداخل، وفي عام وفاته كانت بعثة الخدمات الطبية الأمريكية تغطي البصرة والعمارة والعشار ومسقط ومطرح والبحرين والكويت والإحساء والهفوف والرياض وما حولها.ويختم د .عيسى أمين «في عام 1905 افتتح مستشفى فيكتوريا التذكاري في منطقة رأس الرمان مقابل دار الاعتماد البريطاني «السفارة البريطانية حالياً»، وكان عدد الأسرة في هذا المستشفى 12 سريراً، والمسؤول عنه طبيب عام يتم تعيينه بواسطة حكومة الهند البريطانية».وكان افتتاح هذا المستشفى متزامناً مع وصول أول معتمد بريطاني للبحرين جاسكن، خصص هذا المستشفى لرعاية العاملين في دار الاعتماد إلى جانب مسؤوليته عن الإشراف على العزل الصحي، والكشف على السفن القادمة إلى البحرين.واستمر المستشفى لغاية النصف الأول من القرن الماضي، وكان يقدم بعض الخدمات للأهالي، ويذكر أن الراحل إبراهيم عبدالله المحميد كان مسؤول الموظفين في المستشفى، ويذكر اسم د.هولمز كأحد المسؤولين في المستشفى.