دائماً ما تكون اللحظات الأولى هي أجمل الأوقات التي لا تمحي من ذاكرتنا لأنها عادة ما تمتزج بإحساس الشوق واللهفة، الشعور الذي يصيبك حين تشعر بأنك قد ملكت عالمك الذي تتمناه وتريد أن يبدأ معك لينتهي على الصورة الرائعة، فلا يستطيع أحد أن يتخيل مثل هذه الأحاسيس إلا من خاض التجربة وعاش تفاصيلها، فكل إنسان يطمح بأن يعيش سعيداً مع من يحبهم وينتمي إليهم بأي شكل من الأشكال، فالعلاقات في الدنيا تسير على التفاهم والتأقلم مع ظروف الزمان والمكان حتى تستوي كفتا الميزان ويشعر كل طرف بقلب وعقل الطرف الآخر.كانت الليلة الأخيرة ليلة الأحد قبل يوم شاق من العمل لأحضر نفسي مع ابني الوحيد «محمد» لأول يوم له برفقتي إلى الروضة، علمت بأنه قد حان الوقت لتجهيز حقيبته المدرسية ووجبة إفطاره وملابسه، هو الابن المدلل الذي لا أستطيع أن أرفض له طلباً ولكن شقاوته قد تتجاوز الحدود أحياناً، كحاله من الأطفال لابد أن يفرغ طاقته في اللعب مع الأطفال وقضاء الوقت في ممارسة هواياته وتعليمه، وتحين لحظة الاستيقاظ من النوم بعد أحلام وردية على فراش مريح ونسمات المكيف التي لا نستغني عنها حتى في الأيام الباردة، نهيئ برنامجنا على راحة أبنائنا حتى وإن بكرنا أو أعدنا جدولة مواعيدنا التي تعودنا عليها لأجلهم، فهم يستحقون أن يعيشوا وسط أسرة تحتضنهم وترعى شؤونهم.قد تكون مسؤولية أن تتحمل واجبات الأب والأم صعبة لدى البعض لكنها ليست مستحيلة إذا امتلكت الإرادة، فاليوم الأول ذكرني باليوم الأول الذي صحبتني فيه والدتي إلى الروضة، مازلت أتذكر كيف كنت متمسكاً بها وأنا أبكي حينها رافضاً أن تتركني وسط وجوه جديدة، قلبت بعض الصور التي أحتفظ بها لزملاء الروضة والذين وصل عدد منهم معي حتى مقعد الدراسة الجامعية، ركزت في عاداتي، بعض الأمور التي قد شكلت جزءاً كبيراً من حياتي جعلتني أحب أشياءً وأنفر من أشياء أخرى، ولعل من أكبر العقد هي وجبة تتكون من «البيض» بشكله الكامل والواضح ولا أعرف السبب، وعليه وضعت لابني خيارات متعددة في حقيبته حتى لا يحرم نفسه من الأكل ويشعر بالجوع.على رغم المرض والتعب ومشاغلنا نتحامل على أنفسنا لنرسم البسمة على وجوههم، وينزل من السيارة ليسر إلي ببعض الكلمات «بابا تعال خذني بعدين ودني ألعاب» ويعقبها بقبلة داخلاً الروضة، هو الآن في أيد أمينة يلعب مع الأطفال وينهل من العلم الذي يبني به مستقبله، وأنا أقوم بواجبي في إنجاز متطلبات العمل لأنتظر موعد انتهاء يومه الدراسي، أراقب عقارب الساعة حتى مع وضعي للمنبه على لحظة الاستئذان من العمل، ها أنا قد وصلت ليخرج راكضاً من الباب البعيد إلى الباب الرئيس يجر حقيبته، ينظر إلي لوهلة مجهماً وجهه «ليش تأخرت علي؟!.. باجر باروح معاك الشغل»، اعتقدته يمزح لكنه فعلها اليوم الثاني مع كل الإغراءات الممكنة عن ثنيه لكنها باءت بالفشل.وجميعنا سعداء عندما نرضى بواقعنا بصرف النظر عن المقدمة أو الخاتمة، لكن ما يؤلم الضرير أو المحتاج نظرة الشفقة أو إحساسه بوضع غير سوي، ذلك أن طبيعة البشر تحتم عليهم أن يقوموا ببعض الأشياء التي تنبع من فطرتهم البشرية، مع ضحك واستغراب القريب والغريب على بعض صفحات الحياة المزيفة والمعقدة الفهم، مع القناعة التامة بأن هناك من يستطيع أن يبعثر آلام سنين مضت في إحساس يوم.عبدالله الشاووش