كتب- طارق العامر:كان العاهل السعودي الراحل عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله ينظر إلى أبعد من ذلك حين أطلق مبادرة الاتحاد الخليجي، فقد كان يعلم بما يحاك في مراكز صنع القرار العالمية، ودهاليز الاستخبارات العالمية التي عملت على تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم.فبعد أن رأى خادم الحرمين الشريفين انحراف مسيرة قطار العالم العربي بعيداً عن محيطه، وضع مشروع «الاتحاد الخليجي» ليعيده إلى مساره ويستنهض الهمم ويعد الخطط حتى يحفظ أمن الخليج العربي واستقراره.لقد أدرك العاهل الراحل تلك المخاطر التي تُحدق وتُحيق بالخليج العربي في ظل ثورات الربيع العربي والمد الإيراني الصفوي وأيادي إيران الطويلة الداخلة في كل الاضطرابات التي تشهدها دول مجلس التعاون. فأطلق مبادرته الشهيرة للاتحاد الخليجي، وهو يدرك ويعي تمام الإدراك أنه حان الوقت للتطبيق والتنفيذ لذلك التجمع والاتحاد، وأن الزمن لا يمهل ولا ينتظر أحداً، وذلك حفاظاً على وحدة ذلك الخليج الذي تريد أن تفترسه الأنظمة المعادية من كل جانب وحدب وصوب، وهي مبادرة وخطوة تاريخية تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة، وتعبر عن قراءة واقعية نابعة من زعيم غيور على مصلحة شعوب دول مجلس التعاون لما قد يحمله المستقبل لهم من تحديات تستلزم العمل بروح وحدوية فاعلة.فكرة الاتحاد تجسد طموح شعوب دول مجلس التعاون، وفي الوقت نفسه تمثل رافداً مهماً للعمل الخليجي المشترك، خاصة بعد أن قطع قطار التعاون شوطاً طويلاً أكثر من ثلاثة عقود تحقق فيها الكثير من الإنجازات والتحولات، وبالتالي هي في حاجة إلى الارتقاء بالتعاون إلى مرحلة الاتحاد، والتي عكست هدفاً نبيلاً نابعاً من حس عروبي كريم.لم يكن الراحل العظيم، الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، يعمل على الصعيد الوطني فحسب، من خلال دفع المملكة العربية السعودية وحدها، التي تولى مقاليد الأمور فيها في الأول أغسطس من العام 2005، وإنما أعطى مساحة مهمة من فكره وجهده وحركته لمنظومة مجلس التعاون الخليجي، التي كان يؤمن بها بقوة، سعياً باتجاه الارتقاء بها إلى مستوى الاتحاد الخليجي. في 19 ديسمبر عام 2011 دعا العاهل الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، دول الخليج العربي للتحول من التعاون، إلى الاتحاد بين دول المنطقة في كيان واحد، يكفل تحقيق الخير، ويدحض الشر عن المنطقة، فقال مخاطبا قادة التعاون: «أيها الإخوة والكرام.. نجتمع اليوم في ظل تحديات تستدعي منا اليقظة وفي زمن يفرض علينا وحدة الصف والكلمة، ولا شك أنكم جميعاً تعلمون أننا مستهدفون في أمننا واستقرارنا، لذلك علينا أن نكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا تجاه ديننا، وأوطاننا، كما أننا في دول الخليج العربي جزء من أمتنا العربية والإسلامية، ومن الواجب علينا مساعدة أشقائنا في كل ما من شأنه تحقيق آمالهم، وحقن دمائهم وتجنيبهم تداعيات الأحداث والصراعات، ومخاطر التدخلات».وأضاف العاهل الرحل: «إخواني.. لقد علمنا التاريخ وعلمتنا التجارب، أن لا نقف عند واقعنا، ونقول اكتفينا، ومن يفعل ذلك سيجد نفسه في آخر القافلة، ويواجه الضياع، وحقيقة الضعف، وهذا أمر لا نقبله جميعا لأوطاننا وأهلنا واستقرارنا وأمننا، لذلك أطلب منكم اليوم، أطلب منكم إخواني اليوم، أن نتجاوز مرحلة التعاون، إلى مرحلة الاتحاد في كيان واحد، يحقق الخير ويدفع الشر إن شاء الله، هذا وأسأل الله تعالى أن يبارك في هذا الاجتماع، وأن ينفع به أمتينا العربية والإسلامية، إنه خير مسؤول وخير مأمول».وبقدر ما كانت دعوة العاهل الراحل مفاجئة للعالم، كانت أمنيته تختلج في أنفس كل مواطن خليجي، كما أن النظام الأساسي لمجلس التعاون الخليجي ينص في مادته الرابعة على العمل للوصول إلى مرحلة الوحدة.انه الحلم الذي سعي العاهل الراحل رحمه الله بكل جهد وغالي ونفيس لتحقيقه، لحفظ أمن الخليج وتحصين جبهته الداخلية وترسيخ وحدته الوطنية، عبر المساواة بين جميع المواطنين والمواطنات أمام القانون وفي الحقوق والواجبات، والتصدي للمحاولات الخارجية من جهات تحاول تصدير أزماتها الداخلية عبر إثارة الفتنة والانقسام والتحريض الطائفي والمذهبي، ولقطع الطريق على كل من يحاول استغلال تلك الخلافات أو يعمل في الظلام، بهدف زعزعة الاستقرار والمصير الخليجي المشترك في المرحلة الراهنة، ولعل من طليعتها التهديد الإقليمي الإيراني الذي بات علنياً وسافراً على نحو يفرض على دول الخليج العربية أن تأخذ بكل الجدية قضية الاتجاه إلى إقامة الاتحاد الخليجي، ليكون بمثابة الرد الاستراتيجي القوي على التهديدات الايرانية، وفي ذات الوقت القاعدة الصلبة لتعزيز روابط التلاحم والتكاتف الخليجي في مواجهة الأخطار والتحديات المستقبلية.لقد تلمس العاهل الراحل بروح المسئولية المهددات الاستراتيجية والأطماع الدولية والإقليمية ذات الصبغة الصراعية الحادة والتحولات الجذرية الشاملة، وظهور تعبيرات غير مسبوقة للمشروع السياسي الإسلامي سواء كان سنياً أو شيعياً، وهو ما يستلزم العمل بروح «التعاون» وتحقيق حلم الاتحاد الخليجي، وتحقيق رغبة وأمنية العاهل السعودي الراحل وآخر وصية لقادة دول مجلس التعاون، بضرورة أن يكون الاتحاد كياناً حقيقياً ليشكل حصناً منيعاً لدول مجلس التعاون لمواجهة الأخطار الخارجية، والتأكيد على أن مسؤولية تحقيق أمن واستقرار المنطقة تقع على كاهل أبناء ودول المنطقة، وعلى الاتحاد الخليجي العمل على وضع مفهوم استراتيجي شامل يتضمن آليات فاعلة للدفاع المشترك، وردع التهديدات الخارجية المحتملة في إطار مظلة خليجية واحدة ومتكاملة، وأهمية أن يعكس الاتحاد التماسك السياسي والدبلوماسي الخليجي على نحو يزيد من مكانة وثقل دول الخليج العربية إقليمياً ودولياً، ويحقق أمنها واستقرارها.وكذلك التأكيد على إيجاد مجتمع خليجي قوي متماسك الوحدة الداخلية ذي نسيج اجتماعي مترابط مهما اختلفت الفروقات الاجتماعية أو المذهبية، لمواجهة المتغيرات الإقليمية والدولية، وتعزيز البنية الداخلية للاتحاد بالمشاركة السياسية وتطوير آلياتها، والرقي بمجتمعات دول الخليج العربية وشعوبها في مجال التنمية، وفتح المجالات للشباب للإبداع.رحل القائد الاستثنائي، والرجل العظيم النهضوي، والزعيم الصادق، الصدوق، الوفي، النزيه، -طيب الله ثراه- المحب لأمته ووطنه وشعوب الخليج جميعاً، قبل أن يبصر النور مشروعه العروبي التنويري والقومي وهو مقدمة للوحدة العربية ويخرج إلى حيز التنفيذ، رحل ولكن ظلت أمنيته أمانة في أعناق شعوب دول مجلس التعاون العربي جميعها.