كتب - جعفر الديري: لو أنك شاهدت الصور القديمة لبحر قرية الدير؛ لما صدقت أنه نفسه الذي تشاهده اليوم!. إن المسافة التي كانت تفصله عن بيوت الناس ومساكنهم، لا تقارن بحال من الأحوال بما هي عليه اليوم! كانت بيوت الناس تطل مباشرة على البحر، حتى إن بعضهم كان يرمي المخلفات من النوافذ. وكان البعض الآخر يجلس عند الشاطئ، مسنداً ظهره لجدار البيت. أما في شهر رمضان المبارك، فكان الناس يفدون زرافات إليه، يستروحون الهواء المنعش بانتظار صوت الأذان. كنا أطفالاً حينها على الشاطئ الجميل، قرب بيتنا القديم. القوارب تتهادى مسرورة على مياه البحر، والحجارة تشتمل بين فجواتها على "القباقب” الصغيرة، وما أن ترفع حجراً حتى تكتشف كائنا مسكيناً، عاش ردحاً من الزمن سعيداً بعيداً عن الضوء. كان قربي صديقي سيد زهير، وكان يبدو بشار بن أخي يتأمل في البحر، أما سيد علي شبر فامتطى الخشبة الكبيرة في عرض البحر، برفقة سيد نزار وآخرين. وعلى البعد تبدو سفينة، استرعت انتباه الأطفال، فسارعوا إليها، يقفزون من أعلاها بحركات بهلوانية. أما أنا فوصلتها متأخراً، فوجدت باسم المؤمن يقفز منها، يكاد يطير سروراً. وبدلاً من أن أشاركهم القفز، تلفت فوجدت قدمي اليسرى تنزف دماً! كان هناك جرح عند الإبهام، جرج استمر ينزف حتى خروجي من البحر، وتوجهي للبيت. وهناك كان العلاج أشد وأقسى!، دواء "آيدين” كان يخشاه جميع الأطفال، يوضع على الجرح ليوقف الدم، حاولت الهرب لكن أهلي جميعاً أحاطوا بي، ووضع "الآيدين” على الجرح فانتفضت لشدة حرارته!. كان البحر جدير بالمودة. ورغم أن تعلقي به لا يقارن بهوى آخرين، قضيت فيه من الأوقات أجملها وأخلدها في الذهن. ذات مرة قصدت مع أبي رحمه الله، مكاناً قصياً منه، مشاركين في إقامة "حيزة” لصيد السمك لبيت خيلاني. كان جمعاً غفيراً، لم يقتصر على الأهل وحسب، بل كان هناك الجيران أيضاً. القلوب طيبة متعاونة، لا تبتغي مالاً ولا جاهاً. فقط كان على صاحب "الحيزة” أن يملأ بطون من شارك في العمل، بوجبة دسمة، تعوض ما فقدوه من طاقة، وتوقف غول الجوع. ليس ذلك فحسب، كان إعداد "الحيزة” يستهلك ساعات طويلة وأياماً، وكان الأهل الأقربون والأبعدون، والجيران لا يجدون غضاضة في المساعدة، حتى إذا انتهى صنع "الحيزة” شاركوا في تثبيتها في البحر. تشاركنا جميعاً في وضعها في مكانها، منذ الصباح الباكر، ملاحقين أشعة الشمس قبل اشتدادها. حتى إذا انتهينا كان مرآها وهي تشتمل على الماء منظراً رائعاً رائقاً لنفوسنا. أتذكر من صور البحر أيضاً، خروجي في جوف الليل مع الصديق سيد زهير. كنا عازمين على صيد سمك "السبيطي”، وذلك يلزم تحديد مكان مناسب لصيده. هيأنا المكان، ووضعنا "الخيوط” وقفلنا راجعين، ممنين أنفسنا بصيد وافر، في ليل كأنه السحر.