د . جاسم المناعي*على الرغم من أن العالم قد أصبح على وشك التخلص من تبعات وآثار الأزمة المالية الأخيرة، إلا أنه حتى الآن وحسبما يبدو لم يفلح في تحفيز النمو الاقتصادي بالشكل المطلوب. لا بل على العكس فإن توقعات النمو التي يتم مراجعتها دورياً من قبل المؤسسات الدولية تشير إلى تراجع الأرقام سواء وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات المتخصصة الأخرى. وفي الواقع فإن دول العالم المعنية قد حاولت استخدام عدة وسائل لتحفيز النمو منها التوسع في الإنفاق وتوفير حوافز ضريبية والعمل على تشجيع خلق مزيد من فرص العمل، كما لجأت إلى استخدام السياسة النقدية من خلال تخفيض قياسي لسعر الفائدة إلى أن وصلت في بعض الحالات إلى ما دون الصفر. كما اضطرت السلطات النقدية إلى استخدام أدوات غير تقليدية مثل التيسير الكمي كما حصل في بريطانيا وأمريكا واليابان ويحصل الآن كذلك في الدول الأوروبية.إلا أنه وعلى الرغم من كل هذه الجهود فإن مستوى نمو الاقتصاد العالمي مازال حتى الآن مخيباً للآمال .هذا وإن صدرت بعض المؤشرات الإيجابية من خلال تطور الأوضاع في الاقتصاد الأمريكي والبريطاني لكنها تبقى مع ذلك خجولة ومترددة هذا عدا عن الأوضاع في كل من أوروبا واليابان وحتى في الصين التي حتى الآن لا تشير إلى تحسن واعد من شأنه أن ينعكس إيجابياً على تطور الاقتصاد العالمي.حسبما يبدو أن هناك ثلاثة أسباب رئيسة تعيق تحرر الاقتصاد العالمي من مرحلة الركود والانكماش إلى الانطلاق نحو مرحلة جديدة من النمو والانتعاش.أولاً: المديونية المرتفعة: وبعكس التوقعات على إثر الأزمة المالية بأن دول العالم ستخفض من حجم مديونيتها إلا أننا مازلنا نجد أن مستوى المديونية لم ينخفض بل على العكس فقـد ارتفع تقريبــاً عنــد مختلــف الدول سواء قيس بحجم المبالغ المستدانة أو بنسبة الدين إلى الناتج الإجمالي المحلي الأمر الذي يحد من إمكانات النمو لدى كثير من دول العالم. ووفقاً لبعض الدراسات المتخصصة فإن المديونية العالمية قد زادت منذ الأزمة المالية في 2007 بمقدار57 تريليون دولار مما رفع نسبة الدين إلى الناتج الإجمالي المحلى بمقدار 17%. إن العلاقة بين مستوى النمو من ناحية والمديونية وعجز الموازنة من ناحية أخرى هي في الواقع علاقة عكسية فبقدر ما يعمل ارتفاع المديونية على إعاقة النمو فإن العمل على رفع مستوى النمو وخفض عجز الميزانية من شأنه خفض مستوى المديونية بشكل ملحوظ.ولذلك ليس هناك مفر أمام الدول ذات المديونية المرتفعة من اتباع إجراءات قد لا تكون بالضرورة شعبية مثل بيع بعض الأصول وإصلاح نظام الضرائب وإعادة هيكلة المديونية. إن حالة الصين مؤخراً تمثل أبرز الأمثلة على وطأة المديونية على الوضع والنمو الاقتصادي حيث لاحظنا أن تراجع معدلات النمو قد تزامن مع ارتفاع مستوى المديونية التي زادت بشكل كبير في السنوات الأخيرة من حوالي 7 تريليون دولار في 2007 إلى 28 تريليون في العام الماضي 2014 وأصبحت مديونية الصين وفقاً لذلك تمثل ما يقارب 282% للناتج الإجمالي المحلي والتي تعتبر من أعلى نسب المديونية العالمية وفقاً لهذا المقياس.ثانياً: ضعف مستوى الاستثمار: إن رفع معدلات النمو يحتاج بدون شك إلى استثمارات جديدة وبشكل مستمر. لقد أشرنا إلى الصين في سياق موضوع تأثير ارتفاع المديونية على مستوى النمو، إلا أن ضعف الاستثمارات لا ينطبق على وضع الصين التي استمرت في ضخ استثماراتكبيرة خلال السنوات الماضية لكن حسبما يبدو بأن الاعتماد على التوسع في الاستثمار والتصدير لم يعد يمثل النموذج الاقتصادي القابل للاستمرار بالنسبة لدولة مثل الصين. لكن مشكلة ضعف الاستثمارات بالتأكيد تمثل عائقاً أمام النمو بالنسبة للاقتصاديات الأخرى وبخاصة الاقتصاديات المتقدمة مثل أمريكا وأوروبا. وفى أمريكا بشكل أخص، فإن الشركات والمؤسسات لم توظف كثيراً ما توفر لديها من فوائض مالية في الاستثمارات بل اتجهت إلى استخدامه في زيادة التوزيعات النقدية، إضافة إلى إعادة شراء أسهمها مما أدى إلى تقليص المعروض من هذه الأسهم وبالتالي، ارتفاع أسعارها كما نتج عن هذه الممارسات رفع مستوى العائد على السهم من ناحية لإرضاء المساهمين ومن ناحية أخرى لزيادة مكافآت المدراء التنفيذين المرتبطة مكافآتهم بمستوى العائد على السهم.ثالثاً: التغير في التركيبة السكانية: إن الدول المتقدمة التي تعاني من ضعف النمو الاقتصادي تمر بمرحلة تغيرات كبيرة ومهمة في المجال الديموغرافي. وهذه الظاهرة أصبحت واضحة في دول مثل اليابان ودول المجموعة الأوروبية. وتتمثل هذه الظاهرة الديموغرافية في هذه الدول في تزايد فئات الأعمار كبيرة السن مما يضعف الطلب، إضافة إلى زيادة الأعباء المالية في شكل زيادة تكاليف التقاعد وتكاليف الرعاية الصحية، فضلاً عن تناقص الأيدي العاملة الشابة التي يحتاجها الاقتصاد لضمان استمرار الديناميكية المطلوبة. إن ظاهرة تغير التركيبة السكانية لها أيضاً علاقة وصلة وثيقة بضعف مستوى التضخم. لذلك ليس بالمستغرب ولا بالمصادفة أن نجد انخفاض معدل التضخم في هذه البلدان متزامناً مع ارتفاع فئات أعمار كبار السن التي تنخفض تدريجياً احتياجاتهم وبالتالي ينعكس ذلك في شكل ضعف الطلب الذي لا يساعد على تحفيز النمو الاقتصادي بالشكل المنشود.خلاصة القول إن هذه العوامل التي أشرنا إليها كأسباب ضعف نمو الاقتصاد العالمي لا تعتبر بأنها موسمية أو ترجع إلى طبيعة الدورة الاقتصادية التي نمر بها. إنما هي عوامل حسبما يبدو هيكلية وتحتاج إلى معالجات معمقة غير تقليدية. وإلى أن تتم معالجة هذه الأسباب بالشكل الشافي فإنه ليس إمام العالم غير التعود على معدلات نمو في أفضل الحالات متواضعة إن لم تكن ضعيفة.*الرئيس السابق لصندوق النقد العربي