عواصم - (وكالات): لم يكتفِ تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» بالاعتداء على البشر، نحراً وحرقاً وصلباً وجلداً ورجماً ورمياً من شاهق، بل امتدت سلسلة اعتداءاته لتطال الجماد أيضاً، وهذه المرة، دمر التنظيم الإرهابي شمال العراق مجموعة لا تقدر بثمن من التماثيل والمنحوتات من العصر الآشوري القديم، فيما وصف بأنه «ضرر لا يمكن حصره بجزء من التراث الإنساني».ويبدو أنّ قرار الهدم الذي اتخذ حديثاً، يأتي حسب بعض القراءات رداً على قرار أممي يقضي بمنع «داعش» ومن هم على شاكلته من المتاجرة بالآثار وكسب المال. والآثار التي تم تدميرها الخميس الماضي، هي بالفعل ما لا يقدر جهاديو «داعش» على نقلها أو بيعها. وأثار نشر التنظيم شريط فيديو يظهر تدمير قطع آثرية قيمة في الموصل استنكاراً عالمياً واسعاً ومخاوف من مصير مشابه لمواقع أخرى شمال البلاد.وعرض التنظيم الخميس الماضي شريطاً يظهر قيام عناصر يستخدمون مطارق وآلات ثقب كهربائية، بتدمير تماثيل آشورية وغيرها يعود تاريخها إلى مئات الأعوام قبل الميلاد، في متحف الموصل وموقع أثري ثان في المدينة.وقارن علماء وخبراء في الآثار بين هذا العمل وقيام حركة طالبان في عام 2001، بتدمير تمثالين عملاقين لبوذا في منطقة باميان الأفغانية. ودان الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند التدمير «الهمجي» للآثار. وقال «الهمجية تطال الأشخاص والتاريخ والذاكرة والثقافة»، مضيفاً «ما يريده هؤلاء الإرهابيون هو تدمير كل أوجه الإنسانية».ووصف الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي الأمر «بالجريمة الوحشية التي تفوق الوصف بهمجيتها وبربريتها»، معتبراً أنه يمثل «واحدة من أبشع الجرائم التي ارتكبت في هذا العصر بحق تراث الإنسانية جمعاء».بدورها، وجهت مديرة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونيسكو» إيرينا بوكوفا، رسالة إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، آملة في «إطلاق تحالف دولي ضد تهريب القطع الأثرية». واعتبرت تدمير القطع «عملية تطهير ثقافي وتدمير متعمد للتراث يستهدف هويات مختلف المجموعات التي تعيش في العراق». واعتبر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن تدمير الآثار «استهداف لوجود هذه البلاد وشعبها، ومحاولة لطمس الدور الإنساني الرائد للعراقيين»، مشيراً إلى أن «تدمير متحف الموصل هو عمل همجي جبان لن يمر من دون عقاب». ودعا «جميع دول العالم للوقوف معنا وقفة جادة وحاسمة للقضاء على داعش وتجفيف منابع تمويله». واستنكرت وزارة السياحة والآثار العراقية «العمل الإجرامي»، داعية إلى «التطبيق الشديد والفعلي لقرار مجلس الأمن الدولي الأخير»، في إشارة إلى القرار 2199 الصادر الشهر الماضي، بهدف تجفيف مصادر تمويل التنظيم، ومنها تهريب الآثار. ويسيطر التنظيم على مساحات واسعة في شمال العراق وغربه منذ يونيو الماضي، إضافة إلى مناطق في سوريا المجاورة. ويطبق التنظيم في هذه المناطق، معايير صارمة ومتشددة للشريعة الإسلامية.وسبق له أن عرض صوراً وأشرطة مصورة تظهر قيامه بتفجير مزارات وأضرحة وأماكن عبادة أثرية، معتبراً إياها «شركاً» بالله.ويعتبر متخصصون في الدراسات الإسلامية أن ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأصنام المخصصة للعبادة حول الكعبة في مكة، لا يقارن بتماثيل تعد إرثاً حضارياً بحتاً.وقال أستاذ العلوم الإسلامية في الجامعة اللبنانية، رضوان السيد إن مقارنة التنظيم بين ما فعله وما قام به الرسول الكريم محمد، أمر «غير صحيح على الإطلاق وقياس سخيف ومخطىء».وأضاف أن الأصنام في عهد النبي «كانت تماثيل لآلهة موجودة حول الكعبة، بينما الآثار والتماثيل الموجودة في متحف الموصل والمواقع الأثرية الأخرى ليست تماثيل لآلهة، بل تماثيل لأباطرة وحيوانات وطيور». ويعتقد أن العديد من التماثيل التي دمرت هي نسخ من قطع أصلية نقلت إلى المتحف العراقي أو متاحف عالمية. إلا أن بعضها أصلي، خاصة التمثال الآشوري الضخم للثور المجنح عند بوابة نركال الذي قام عناصر التنظيم بتشويهه وتحطيم قطع منه باستخدام منشار كهربائي. وأثار تدمير الآثار مخاوف على ما تبقى من مواقع تاريخية في محافظة نينوى، وكبرى مدنها الموصل. وأبلغ عناصر التنظيم الجهادي حراس بوابة نركال، أن هدفهم المقبل سيكون موقع نمرود الأثري جنوب الموصل، بحسب عالم الآثار العراقي عبد الأمير حمداني.وقال حمداني، من جامعة ستوني بروك الأمريكية «هذه ليست نهاية القصة، على المجتمع الدولي التدخل». وأضاف أن نمرود «واحدة من أهم العواصم الآشورية، ثمة نقوش وثيران مجنحة هناك، ستكون كارثة حقيقية»، متخوفاً من قيام الجهاديين أيضاً «بمهاجمة الحضر وتدميرها، وهي منطقة معزولة جداً في الصحراء».وتقع مدينة الحضر التاريخية على مسافة 100 كلم جنوب غرب الموصل، وهي مدرجة على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو.وفجر الجهاديون في وقت سابق مسجد الخضر الأثري وسط مدينة الموصل بذريعة أنه يضم مرقداً تاريخياً، بحسب شهود وأكاديميين. كما أفاد شهود أن التنظيم أحرق في أوقات سابقة، كتباً في مكتبة الموصل، ودمر مزارات تراثية عدة في المدينة التي تعد من الأقدم في الشرق الأوسط. وقال المهندس المعماري العراقي المقيم في عمان إحسان فتحي «أخشى أن المزيد من التدمير قادم»، معتبراً أن عناصر التنظيم يمكنهم «أن يفعلوا كل شيء، من سيوقفهم؟».ويشن تحالف دولي بقيادة الولايات المتحدة ضربات جوية ضد التنظيم، في وقت تحاول القوات العراقية والكردية على الأرض استعادة المناطق التي يسيطر عليها الجهاديون.إلا أن حماية الآثار الواقعة في مناطق بعيدة عن متناول القوات الأمنية، يبدو أمراً شبه مستحيل.ويقول مدير المركز الإقليمي العربي للتراث العالمي في البحرين منير بوشناقي «إذا لم يكن لديك أحد على الأرض، فمن الصعب جداً حماية الآثار، وتكون تخاطر أيضا بإلحاق مزيد من التدمير بها».