رحلت أمي.. رحلت سعادتي.. رحلت تلك القطعة من الجنة التي كنت من فرط تنعمي بها أعشق تقبيل ظاهرها وباطنها، ومسكين هو ذلك الابن من لم يطعم هذا العشق. وقبل الرحيل والوداع.. في المستشفى عند سرير الفاجعة وبشيءٍ من الأنانية مع إخوتي استأثرت بقدم أمي أقبل ظاهرها وباطنها وأنا أبكي وأدعو الله ألا يحرمنا هذه القطعة ومن نعيم الأم، وشاء الله أن يكون الوداع والفقد العظيم، واللهم لا اعتراض، وحينها ضج صدري بهذا الدعاء.. يا الله أنا وإخوتي أدنى من عبدك ونبيك أيوب عليه السلام، ولكننا نسألك بكرمك ورحمتك أن تفرغ علينا صبراً أعظم من صبره.. ربنا إنا مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين. لتقدم علينا بعدها سيدتي وأختي الكبرى وهي تبكي بألم فيه مسحة من فرح بعد أن أنهت هي وسيدة فاضلة من تجهيز فقيدتنا الغالية -رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته-، وتخبرني وإخوتي بأن نبشر بمشهد يسرُّ الأبناء المكلومين الصابرين المحتسبين الراضين بقضاء الله وقدره.. بمشهد وجهٍ وضاءٍ فردوسي مبتسم، وبسبابةٍ شهدت حيةً وميتة ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وليلحق بهذه البشرى حضور كبير مهيب ضاقت به مقبرة «أم الحصم».. حضور ترجم قدر الأم في الدارين، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وجزى الله عنا كل من واسانا في مصابنا الجلل بحضور أو بأي أشكال المواساة خير الجزاء، وأسأل الله العلي القدير أن لا يريهم -وأي أحد- مكروهاً في عزيز لديهم.فقدت سيدي الوالد قبل عشر سنوات بالضبط، واليوم فقدت سيدتي الوالدة رحمهما الله رحمة واسعة وأسكنهما فسيح وأرفع جنانه، وعظم المصابين عجزت وستعجز عن وصف ألمه كل المشاعر، وكل الدموع، وكل الكلمات.. ولكن مصابي وإخوتي الجلل بفقد الأم حلّ ألمه مضاعفاً، لاكتمال اليتم، وليتماهى حجم الألم مع ما جاء في الحث على واجب برِّها.. أمك ثم أمك ثم أمك. أمي رحمها الله وطيب ثراها وأسكنها فسيح وأرفع جنانه.. كانت إذا اشتد مرضها الأخير اشتدت في الطاعات، وهي من دأبت وصل الليل بالنهار في طاعة خالقها رغم تنبيه الأطباء لها بعدم إجهاد نفسها، ورجاؤنا لها نحن أبناءها بتخفيف الجهد على جسدها المريض، إلا أن لسان حالها كان وكأنما يردد ما ورد في الأثر النبوي «أفلا أكون عبداً شكورا»!. كم احتقرت جهدي المقل في الطاعات -وأنا المعافى في بدنه– أمام عظم طاعات أمي، ولا عجب.. فالأم مدرسة. وكنت قد نظمت هذين البيتين وأنشدتهما بين يدي أمي منكسراً:أُخطئ وعفوكَ يصيبُأدعو بعدها فتجيبُوأشكو من قلةِ الحبِّويحي إنّ الحبيبَ قريبُمخاطباً الله الحبيب القريب الأسمى، وواثقاً من كرمه وعفوه، متشفعاً بالحبيبة القريبة مني.. أمي.. فإذا بدمعها ينهمر، وهي تخاطبني، «أحسنت يا ولدي.. نعم.. إن الحبيب قريبُ». وكيف لا تدرك الأم هذا القرب من الله، وقد خصها والأب بقربٍ عظيم في قوله، «أن اشكر لي ولوالديك».. اللهم لك الحمد والشكر في السراء والضراء، والشكر لوالدي لفضلهما الجم الذي يقصر عنه شكري وشكر إخوتي.. طبتما حيين وميتين.اقسم بالله بأنها وبإحساس الأم لم تخطئ يوماً في قراءة تعابير وجهي وما خلفها حتى وأنا أحاول إخفاء ما بي خلف ابتسامة كنت ألقى بها دوماً أمي، وهذا إعجاز خصّ الله به الأم، فلطالما صدقت حين كانت تبادرني بعد نظرتها الشريفة الكريمة وبفراستها المعجزة، «يا ولدي أنت جائع.. يا ولدي أنت مهموم.. يا ولدي ما الذي يشغلك..»؟!، واقسم بالله بأنها لم تخطئ يوماً أيضاً في إسداء مشورتها الصائبة -التي يرافقها دعاؤها- حين كنت أسعى إليها حتى في بعض الأمور التي أنا على علمٍ بأنها ليست على قدر تام من الإلمام بها، ومع هذا كان التوفيق والنجاح دائماً حليفاً قراراتي التي باركتهما مشورة ودعاء أمي.. أأدركتم الآن حجم فقدي ومصابي!؟أمي وأبي أحبا هذا الوطن وأهله، والخير لهذا الوطن وأهله بل وللعالم والبشرية جمعاء، فبحق هذا الحب أسأل وأرجو المتكرم بقراءة سطوري هذه بالدعاء لهما، وأنا وإخوتي من الشاكرين والمطوقين بهذا الإحسان. رحم الله أمي وأبي رحمة واسعة وأسكنهما فسيح وأرفع جنانه وجعلهما من المقربين المكرمين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.رحم الله درويش القائل:«الموت لا يوجع الموتى.. الموت يوجع الأحياء»!علي صالح الضريبي