د. جاسم المناعي* من الطبيعي جداً ألا تكون مواقف الدول من قضايا العالم دائماً متطابقة. لكن الملاحظ مؤخراً أن هناك تبايناً كبيراً في هذه المواقف وعلى وجه الخصوص بين أمريكا وحلفائها. كما إن هذا التباين في المواقف سواء سياسياً أواقتصادياً هو آخذ في الاتساع، فعلى الصعيد السياسي لا يبدو أن هناك اتفاقاً تاماً في ما يخص الموقف تجاه روسيا، حيث إن المجموعة الأوروبية غير راضية عن التوتر الحالي مع روسيا لأنه من الناحية الجغرافية فإن أي تصعيد في النزاع مع روسيا من شأنه أن يهدد أوروبا بالدرجة الأولى وحدودها المجاورة لروسيا. هذا كما أن بعض دول أوروبا الشرقية وإن كانت منضمة إلى حلف الناتو إلا أن جزءاً كبيراً من مجتمعاتها مازالت تربطه علاقات اجتماعية وتاريخية مع روسيا. هذا إضافة إلى كون كثير من الصناعات والمنتجات الأوروبية تعتمد على السوق الروسية، لذلك فإن قطاعات مهمة في الاقتصاديات الأوروبية غير راضية عن الحظر والعقوبات المفروضة على روسيا، هذا إضافة إلى أن روسيا تمثل مصدراً مهماً للطاقة التي تعتمد عليها كثير من الدول الأوروبية. إن التباين في المواقف السياسية بين أمريكا وحلفائها لا ينحصر في الواقع على أزمة أوكرانيا والعلاقة مع روسيا بل يظهر أيضاً وبوضوح من خلال التعامل مع الملف النووي الإيراني أو الحرب في سوريا أو حتى في العراق.على صعيد الملف النووي الإيراني ففي الوقت الذي تراهن أمريكا على التوصل قريباً إلى اتفاق مع إيران حول هذا الملف نجد أن بعض دول المجموعة الأوروبية المهمة تعتقد بأنه مازال هناك أمور مهمة عالقة ينبغي الاتفاق عليها.في الواقع إن تباين المواقف حول ملف إيران النووي ليس فقط بين أمريكا وحلفائها بل إنه حتى داخل أمريكا نفسها لا يبدو بأن الموقف يحظى بإجماع تام حيث إن أمريكا تبدو منقسمة في هذا الشأن. هذا ينطبق على ملفات سياسية أخرى منها الملف السوري، حيث أظهرت الإدارة الأمريكية مؤخراً بعض التناقضات مع مواقف سابقة لها حول الموضوع الأمر الذي أثار دهشة المراقبين بل إن مثل هذه المواقف قد سببت إحراجاً وإرباكاً لمواقف حلفاء أمريكا وشركائها في هذا الشأن.أما على الصعيد الاقتصادي فإن المشهد لا يقل تبايناً إن لم نقل تنافراً تجاه بعض القضايا الاقتصادية المهمة. أول هذه القضايا هو الموقف من إصلاح نظام صندوق النقد الدولي، حيث إن جميع الدول الأعضاء في الصندوق تقريباً قد وافقت على إجراء الإصلاح المطلوب والذي يتمثل أساساً في تمثيل أكثر عدالة للدول النامية وفقاً لزيادة أهمية اقتصادياتها مقارنة بالوضع السابق الذي قام عليه التمثيل في الصندوق في بداية تأسيسه. وعلى الرغم من موافقة جميع الدول الأعضاء تقريباً على إجراء هذا الإصلاح بما في ذلك الدول الحليفة لأمريكا، إلا أن الموقف قد اصطدم بالممانعة الأمريكية التي تقف حتى الآن عائقاً في وجه مثل هذا التطور الطبيعي لمؤسسة دولية تمثل فيها الدول النامية ثقلاً متنامياً وبشكل ملحوظ. مثل هذه المواقف أدت بالدول النامية إلى التفكير بإنشاء مؤسساتها التنموية الخاصة التي لا تخضع بالضرورة للنفوذ الأمريكي، لذلك دعت الصين مؤخراً إلى إنشاء بنك جديد للبنية التحتية والاستثمار في آسيا.وقد دعت الصين جميع الدول بما فيهم أمريكا للانتساب إلى هذا البنك، حيث لاقت هذه الدعوة الترحيب والقبول من كثير من الدول خاصة حلفاء أمريكا مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، إضافة إلى بعض الدول الخليجية. هذا في الوقت الذي أثار فيه هذا الموضوع حفيظة أمريكا التي عاتبت بريطانيا على قبولها الانضمام إلى هذا البنك، إلا أن بريطانيا قد اتخذت قرارها وفقاً لمصالحها المتمثلة، أولاً في قناعتها بجدوى هذا المشروع، وثانياً رغبة منها في كسب الاستثمارات الصينية في بريطانيا.إن تباين المواقف بين أمريكا وحلفائها لا يقتصر كما يبدو على هذه الأمور التي تمت الإشارة إليها، حيث إن هناك أيضاً ما يشبه حرب العملات بين أمريكا من ناحية والتي تتصاعد قوة عملتها الدولار بشكل متسارع ومستمر وبين بعض حلفائها مثل الدول الأوروبية واليابان والتي تتجه عملاتها إلى مزيد من التراجع المرغوب بالنسبة لهذه الدول التي تتطلع إلى أن يكون في انخفاض قيمة عملاتها ما يساعدها على الخروج من حالة الركود الاقتصادي المطبق عليها منذ فترة ليست بالقصيرة. حتى الآن تبدو حرب العملات هذه نوعاً من الحروب الأخرى الباردة، لكن إذا استمر هذا الوضع وواصلت عملات أمريكا وحلفاؤها وبخاصة في كل من أوروبا واليابان نفس الاتجاه فلن يطول الوقت كثيراً قبل أن تندلع الحروب التجارية المعلنة وإجراءات الحماية الجمركية والقيود الإدارية على حركة التجارة الدولية والتي لا تخدم بالطبع مسيرة تعافي الاقتصاد العالمي ولا تساعد على تحقيق الانتعاش الاقتصادي على صعيد دول العالم.هل نطمع في انسجام سياسي واقتصادي أفضل يحقق الاستقرار والسلام والازدهار لمختلف شعوب العالم؟ لا ينبغى أن يكون ذلك بمستبعد!* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي