ليست مقاربة الفساد بالأمر الهين رغم سطوع هذه الظاهرة، التي لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها، بل قل إن تناول هذه الظاهرة يتم من زوايا ورؤى مختلفة.إن وظائف الفساد ومستوياته (ولا نقصد بالوظيفة هنا تقويم الفساد أخلاقياً، وإنما النتائج الموضوعية له) تنوس بين قدرته على إنتاج التراكم في ظرف ما أو الحيلولة دونه، ومن اللافت للنظر أن الفساد -رغم الموقف الاجتماعي منه- قد يكون علاناً في تلك الدول التي تسود فيها الشفافية، في حين أنه يظل مستوراً في الدولة القمعية الدكتاتورية، وفي كل الأحوال يتعذر علينا قياس كلفة الفساد بشكل دقيق.إن الفساد في حدوده الصغرى كالرشوة السائدة والرشوة الطارئة، والفساد في حدوده الكبرى وهو فساد منظم والذي يمارسه بعض كبار مسؤولي السلطات الثلاث (التشريعية - التنفيذية - القضائية) غير أن هذه المستويات تختلف استناداً إلى طبيعة النظام الاقتصادي - الاجتماعي ذاته كالفساد في الاقتصاد الموجه والفساد في اقتصاد السوق والفساد في الاقتصاد المشترك فضلاً عن ظاهرة الفساد الجديدة المرتبطة بعملية الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الحر، وهذه ظاهرة لم يألفها التاريخ سابقاً إلا في مرحلة انهيار الشيوعية وإعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية مرة أخرى.وفي كل الأحوال ومهما تفاقم أمر الفساد وصار ظاهرة طبيعية أو كان ظاهرة طارئة فإن هنالك حدوداً لا يستطيع المجتمع أن يتعايش معها كما لا تستطيع الدولة الاستمرار في أداء وظائفها، ومن هنا تبرز مكافحة الفساد وإنتاج آليات الحد منه وهذا أمر تمارسه أغلب دول العالم.ويظل القول صحيحاً أن سبل مواجهة الفساد في الدولة الديمقراطية أنجع بما لا يقاس من وسائل مواجهته في الدولة الشمولية، ولما كانت آثار الفساد تطال جميع صعد الحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية، فإنه جدير بالتناول والمناقشة والإجابة على أسئلة من قبيل:ما الفساد، هل الفساد الاقتصادي ثمرة فساد سياسي أم العكس؟ هل الفساد ظاهرة موضوعية أم هو ثمرة سياسة واعية؟ ما السبيل إلى لجم الفساد؟ هل بالشفافية والمساءلة، أم بالعقوبة الزاجرة، أم بتغيير البنية التي أنتجت الفساد؟ ما الآثار الأخلاقية للفساد؟ ما علاقته بمفهوم الحق والواجب؟ ترى لماذا شهدت مرحلة الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، تفشي ظاهرة الفساد بهذه السرعة والكيفية؟ هل تحول التعددية الاقتصادية والسياسية دون الفساد أم أنها تفضي إلى تعدد أنماطه؟ وإذا كانت الخصخصة لدى البعض منقذاً من الفساد فلماذا عم في مرحلة الخصخصة؟وإذا ما تمسك كل منا بحقوقه التي يتفرع عن كل حق منها أربعة واجبات تتمثل: بوعي ومعرفة الحقوق، وممارسة هذه الحقوق، وحمايتها والدفاع عنها، ومراعاة حقوق الآخرين، وإذا ما أدى كل منا واجباته وفقاً لما تمليه أخلاقيات الوظيفة العامة، فإن مساحة الفساد ستنحسر إلى حدودها الدنيا. وليس مبرراً كون الفساد ظاهرة عالمية أن نقبله ونتعايش معه في بلداننا.إن من اللافت للنظر الاهتمام العالمي المفاجئ بالفساد مصحوباً بضجة إعلامية كبيرة، فهل هذا مرتبط بثورة الاتصالات والمعلوماتية؟ أم هو مرتبط بانتهاء الحرب الباردة وما رافقها من تكتم متبادل على قضايا الفساد؟ وهل هو مرتبط بتطور المجتمع المدني داخل كل دولة؟ أم أن هناك تياراً دولياً يخشى من الفساد في ظل ازدياد حجم التجارة وظهور جماعات فاسدة تسعى لغسيل الأموال؟ هل إناطة اللثام عن الفساد ينم عن صحوة وطنية أملتها الموجة الثالثة للديمقراطية؟ أليس مطلوباً التوقف على آلية تكيف المجتمعات مع الفساد؟ ومعرفة الطرق التي سلكتها في تجاوزه وتلافي أضراره؟ ثم لماذا يرتبط تحول المجتمعات إلى الرأسمالية بشيء من الفساد؟ ولماذا يرتبط أيضاً تحولها إلى الديمقراطية بقدر من الفساد؟ وأخيراً هل تحتاج المجتمعات إلى قدر من الفساد كضرورة أنجبتها البيروقراطية؟ ولماذا شيء من الفساد الوظيفي مفيد كما ذهب بعض علماء الإدارة الأمريكيين (قدر من الفساد ضروري لأداء سياسي جيد) مفارقة عجيبة شعوب تكافح الفساد وأنظمة تبرره؟ وفي كل الأحوال الطريق إلى محاربة الفساد يمر عبر القاعدة التي تقضي بـ(فكر عالمياً ونفذ محلياً) وفي كل الأحوال فإن مكافحة الفساد لاسيما الفساد السياسي والإداري والمالي يستدعي بالضرورة توافر ثلاثة شروط هي :-1 الشفافية في عمل الدولة ومؤسساتها.-2 الحكم الرشيد، ويعني الحكمة في استخدام الموارد وحسن اختيار السياسات الاقتصادية.-3 المساءلة القانونية للقائمين على إدارة شؤون الدولة، والمحاسبة الصارمة لمرتكبي الفساد.إن السياسات الخاطئة للدولة التي لا تقوم على قاعدة معلومات صحيحة، أو تفاضل بين البدائل والخيارات المتاحة، قد تفوت على المجتمع فرصاً كثيرة، منها عدم استثمار الموارد الاقتصادية والطاقات البشرية على نحو أمثل، حتى ولو لم يكن هناك فساداً.والشفافية التي عقدت بشأنها العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية في السنوات الأخيرة إلى درجة أن ألمانيا أحدثت منظمة خاصة تعنى بقياس درجة الشفافية بين الدول، باعتماد مؤشرات يتم بمقتضاها تحديد أكثر الدول الشفافية وأقلها شفافية، واللافت للنظر أن الدول المتقدمة كانت السابقة إلى إثارة هذه القضية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي اشتهرت شركاتها بتقديم الرشى لبعض مسؤولي دول الجنوب للفوز بالصفقات التجارية. كذلك أظهرت المعطيات تورط المسؤولين في بلجيكا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، في قبض عمولات أو قروض ميسرة أو هدايا ثمينة لتمرير صفقات مشبوهة، إلى درجة أن الفساد طال موظفي أجهزة الاتحاد الأوروبي، مما حدا بالبرلمان الأوروبي إلى إقالة كل أعضاء لجنة الاتحاد، نظراً لتقاعسهم في الكشف عن جوانب الفساد المالي أو لتورطهم في قضايا الفساد السياسي.عبداللطيف بن نجيب متطوع بدار يوكو لرعاية الوالدين
الفساد من أين يبتدئ وأين ينتهي؟
27 مارس 2015