كتب - علي الشرقاوي:يقول الشاعر العراقي الكبير خلافاً للمثل السائد «ليست كل الطرق تؤدي إلى روما»، وهو يرى أن المتصوف أكثر وعياً من الثائر أو الفيلسوف لأنه يحتفظ بأسرار خطيرة ولا يعترف بها بسهولة.ولأنه مختلف لم يسلك البياتي درب عشرات الشعراء وهم يكتبون المرثيات بوفاة الزعيم القومي جمال عبدالناصر، بل اكتفى بعد عام من وفاته بكتابة قصيدته «مرثية إلى إخناتون».ويعترف البياتي في الحلقة الثانية من الحوار المتخيل، أنه لم يتقصد الهروب من الواقع في قصائده، بل حاول «أسطرة» هذا الواقع، لتصبح القصيدة أكثر حصانة وتدوم في الزمن.ويكره البياتي شهر المناسبات ويقول إن المناسبة تدفع الشاعر للتزييف، بينما الشعر محاولة للانتقال من الذات إلى الذات العليا، قبل أن يضيف «الشجرة لا تموت لأن البذرة تعيد خلقها، والإنسان يولد من خلال أبنائه أو إبداعه».* في «مراثي لوركا» حاول البياتي تصوير مدينة تشبه «إرم ذات العماد». لكنها ليست نسخة عنها، إرم ذات العماد إنسانية وليست الجنة، كذلك في قصيدة «بستان عائشة» أصور مدينة أو بستاناً.* القصيدة كما أرى لا تتحدث عن امرأة، بل عن حلم إنساني في المدينة، مدينة الحرية الحقيقية.لكني اتخذت من المكان والتاريخ وعاء مشتركاً، حيث تصورت عرب الشمال الموجودين في الهلال الخصيب قبل الإسلام، حيث شكلوا الاختمار الروحي ومهدوا للثقافة العربية فيما بعد، كان ذلك تعبيراً عن محاولات، من ثوار أو فلاسفة أو متصوفة، وربما كان المتصوف أكثر وعياً وحدة في محاولاته من الثائر أو الفيلسوف، فهو يحتفظ في دواخله بأسرار خطيرة لا يستطيع إعلانها بسهولة.* البياتي يؤكد باستمرار أهمية أن تسكن التجربة داخل اللغة، ومع هذا فإن القارئ لشعره يرى استعارات وأقنعة، تستدعي شخصيات وأحداثاً تاريخية، ألا يبدو هذا الذهاب إلى التاريخ انشغالاً عن التجربة الشخصية بإيجاد مرجعيات معرفية؟لا أبداً، تحدثت عن ذلك بأكثر من مناسبة، ما أريد قوله هنا أني أحاول أن أجعل من الأسطورة واقعاً وبالعكس.أذكر لك مثالاً.. عندما توفي عبد الناصر لم أكتب كما كتب عشرات الشعراء قصائد رثاء، لكني بعد سنة أو أكثر كتبت قصيدة «مرثية إلى إخناتون»، إخناتون التاريخي أصبح قيمة ثابتة تاريخية وحضارية، وبعيدة عن النقد، فالتاريخ أخذها وابتعد بها، بحيث لم يعد من هم المعاصر أن يبحث في سيرة إخناتون.* وهذا ما جعل منه صورة مثالية جميلة؟بعض من قرأوا القصيدة، أذكر منهم د.لويس عوض، قال عنها «كأنها مرثية لعبد الناصر بالذات»، لكن الشعر أحالها من قصيدة مناسبةإلى قصيدة أخرى. * ماذا عن عبد الخالق محجوب؟ عندما أعدم عبد الخالق المحجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني في عهد النميري، وكان صديقاً حميماً لي، لم أهتم بكتابة قصيدة عن موته، فالشعر ليس مطاردة الأحداث ورثاء هذا أو ذاك، ما لم تتبلور به قضية جوهرية تتخذ إطاراً فنياً، لكني كتبت «بعض المحكومين بالإعدام بعد سقوط كومونة باريس».*كل الذين قرأوا هذه القصيدة قالوا إنها عن عبد الخالق المحجوب، لكنها دخلت في سياق فني ابتعد بها عن المناسبة.كذلك حاولت قدر الإمكان عندما ألجأ إلى القناع أو الأسطورة، أنا لا أتقصد الهروب من الواقع، لكني أحاول «أسطرة» هذا الواقع، لكي تصبح القصيدة أكثر حصانة. * حصانة ضد ماذا؟ حصانة ضد الزمن، بمعنى أن القصيدة تقرأ الآن وتقرأ بعد 50 أو 100 سنة، كما تقرأ الآن ألف ليلة وليلة والأساطير الشرقية والعربية، هكذا أنهج في الكتابة.* هل هذا لأنك تكره شعر المناسبات؟من أعماق قلبي منذ بداياتي، وكنت عندما أقرأ المتنبي أو سواه، فما أن أشم رائحة مناسبة في قصيدة حتى أبتعد عنها ولا أقرأها. * ماذا عن المناسبات الوطنية الكبرى؟أستثني المناسبات الكبرى التي تلتصق بالشاعر، فالمناسبة تجعل الشاعر يزيف ما يكتب أو يزيف الشخصية التي يتحدث عنها لغرض مادي أو معنوي، فالشعر في جوهره محاولة للانتقال من الذات إلى الذات العليا.* منذ متى وصلت إلى وعي هذه الحالة؟هذا الوعي في كتابة القصيدة لازمني منذ البدء نتيجة قراءاتي للتراث العربي وغربلته، وكنت حينما أقرأ قصيدة ولا أحسها تقترب من جوهرالشعر الحقيقي، لا أتمثلها في وعيي، بل أتركها وأنبذها.* ماذا عن الشعر الغربي؟كذلك في قراءتي للشعر الأجنبي، كنت أحاذر قراءة الشعر الرومانسي لأنه يسقط في المطولات والثرثرة أو المثالية والإنشاء، باستثناء شيلي إذأحببته لتركيز قصائده، لكن بايرون مثلاً يدخل في بحر من الرومانسية لا ساحل له على الإطلاق، فأصاب بالإشباع بعد صفحتين أو ثلاث من قصيدته فأتوقف.* لكن الانتقال من الوضوح إلى الغموض من الواقع إلى الأسطورة وبالعكس، يمنح القصيدة مستويات عدة للقراءة، فهناك من يقرأها على أنها واقعية وهي ليست كذلك، أو ثمة من يقرأها بوصفها أسطورة وهي ليست كذلك أيضاً، كيف تعاملت مع هذا الموضوع في تجربتك الشعرية؟في «بستان عائشة» مثلاً، وفي قصيدة «مترو باريس» بالذات، حاولت الاستفادة من نزول البشر إلى جوف الأرض وتحرك المترو بهم، وفيهم من ينام لأن محطته بعيدة، ومنهم من يقرأ الجريدة، ومنهم من يتملكه الوجوم والصمت.* إنك بهذا استفدت من أسطورة نزول عشتار إلى العالم السفلي.بالضبط وصورت حلم الجميع بالولادة الأخرى والانبعاث، لكن لن يولد أحد لا في الفعل الواقعي ولا في الفعل الرمزي.* المترو سيصل حتماً إلى محطته الأخيرة.أيضاً في قصيدة «مجنون اشبيلية» كنت ذات يوم في ساحة مقابلة للجيرالدا، وكانت من أكبر المآذن ثم حولت إلى كنيسة وهذا لا يعنيني، الذي يعنيني رمزها الأدبي بمشهدها المهيب.. رأيت إلى جانب الجيرالدا رجلاً أشبه بمجنون ظهر واختفى، وبدلاً من أن أفعل كما يفعل بعض الشعراء العرب الذين يكتبون بشكل باك عن الفردوس المفقود، ويبكون على الأندلس، تصورت إنساناً يموت تحت الجيرالدا، يصرخ صرخته الأخيرة ويموت.* حديثك عن الموت يثير لدي سؤالاً، حول ثنائية الموت والحياة، وجدلهما الواضح داخل تجربتك ـ مثلما تتضح داخل تجربة الرواد ـ لكن ما يؤشر هنا أن هذا الجدل أو الفهم للموت لم يكن بالمعنى الوجودي الشامل، بل كان اقتراباً من موضوع الموت عضوياً، كيف تميز تجربتك في هذا السياق عن بقية الرواد؟ لا أستطيع الحديث عن غيري، لكني أستطيع القول إن الشعراء الرواد عبروا عن فكرة الموت كما قرؤوها في الكتب، غير أني لم أنطلق من قراءاتي بل من تجربتي المتواضعة مع موت الأشياء، الطبيعة، الإنسان، الأطفال، وهو ما أثار لدي السؤال الوجودي ما معنى الموت؟ وهذا انتهى بي إلى تبني فكرة أن الإنسان يموت من الحياة ولا يموت من الموت.* هذه الفكرة ليست بجديدة. كنت أظن أن الفكرة جديدة، لكني اكتشفت الوعي بهذه الحقيقة لدى بعض الشعراء العرب القدامى، وإن اكتافيو باث تأثر بهذه الفكرة عن طريق الإغريق ـ لكن العرب سبقوه ـ أذكر هنا طرفة بن العبد عندما يقول «أرى العمر كنزاً ناقصاً كل ليلة».* الإنسان يموت من الحياة.. الذي يبلغ الثلاثين معناه أنه مات ثلاثين عاماً وهكذا. هذه الفكرة لم أجدها في الكتب، قبل إحساسي بها، القراءة ساعدتني فقط على الوصول إليها لتأكيد ما أحس به أصلاً، في ديواني «كتاب المراثي» قصيدة بعنوان «الشاعر والقصيدة» تلامس هذه الفكرة، حيث أصور القصيدة غولاً يأكل السنوات الميتة، لكن موت الشاعر يحل في القصيدة فيصبح حياة.* المعادل الموضوعي للموت الذي يموته الشاعر هو القصيدة.نعم، ليس هناك ثنائية بين الموت أو الحياة، لهذا أفضل كلمة جدلية فهما يتداخلان وأحياناً يسبق أحدهما الآخر، فالشجرة لا تموت لأن البذرة تعيد خلقها، والإنسان يولد ليس هو نفسه بل من خلال أبنائه أو إبداعه.* أو من خلال الذاكرة الجمعية.أحس أحياناً وأنا أكتب مقطعاً في قصيدة ـ أني سبق لي أن عشت قبل مئات السنين، كنت في هذا المكان قبل هذا الزمان، وأني كتبت هذه الجملة ولكن لا أعرف.* حتى لا ندخل في الخرافة، أعتقد أن هذا يعود إلى العقل الجمعي.نعم، الإنسان يولد من خلال الذاكرة الجمعية لكنه ليس هو.* ديوانك «كتاب المراثي» من هم المرثيون فيه؟ ولماذا الغرض الرثاء؟ هل تعتقد أن الزمن العربي زمن رثاء؟حاولت أن أقترح فكرة جديدة في الرثاء.. هناك مراث عن ابنتي قصيدتان طويلتان إحداهما كتبتها بعد موتها مباشرة، والأخرى بعد سنة، لكنها ليست مراثي عائلية بقدر ما هي تأمل جديد في وجه الموت، هناك قصيدتان عن لويس عوض، تأملت بهما في وجه الموت من خلال مصر البيئة والثقافة، وعدت بهما إلى امتداد الكاتب المصري. المصريون القدامى كذلك قصيدة «الموت في المنفى» عن غائب طعمة فرمان، كنا رفاق طفولة نحاول الوصول إلى مدن العشق، لكننا لم نصل إذ نكتشف أن ليس كل الطرق تؤدي إلى روما. * في الديوان أيضاً قصيدة قصيرة عن ناجي العلي.لكنها ليست قصيدة سياسية، حاولت اقتراح نموذج للرثاء لم أسع إليه لكن موت الأصدقاء جعلني إزاء قصائد لا تقترب من الرثاء بالمعنى التقليدي، إذ إني خرجت من الغرض تماماً بتقديمي نموذجاً جديداً.* إضافة إلى مراثي الأشخاص هناك مراث للزمن «مرثية العمر» و»مرثية القرن العشرين» بخيباته وهزائمه، إذ تتحول مدن مثل بخاري أو سمرقند إلى مدن أسطورية لا واقعية.هذه المدن لا أصورها كسائح بل كفلاح دخلها للمرة الأولى، وعندما يعود إلى أهله يصفها بشكل أسطوري وخرافي لا يمت للواقع بصلة، فالمدن عندما تغيب عن الذاكرة تأخذ أشكالاً أسطورية، وهذا ما حاولت السينما الاستفادة منه بإنجاز سريالي بشكل مختلف. * لكن الشاعر أحياناً بعد أن ينتهي، يجد أن كلمات أو صوراً قد دخلت إلى القصيدة، لا علاقة لها بها. وإن كانت جميلة، أسحبها على ورقة أخرى وأتركها، أنساها لتظهر ذات يوم في قصيدة أخرى وفي مكانها بالذات.* التنظير.. ثمة شعراء يكتبون «عن الشعر» أكثر مما يكتبون في الشعر، ما رأيك بالشاعر المنظر؟ عندما يتحدث الشاعر عن تجربته أو تجربة البشر في الحياة والتاريخ فهذه ثقافة، ولكن عندما يمتهن هذا الشيء، يخرج عن كونه شاعراً.. الشاعر غير مطالب بالتنظير في شتى المجالات.* ذلك أننا كنا نلامس التجربة الحية الخلاقة للشعر وليس الحديث عن النظريات من الخارج. نعم.. أندريه بريتون على سبيل المثال كان مفكراً كبيراً لكنه ليس شاعراً كبيراً، بالإمكان إضافة اسمه إلى أسماء لينين وفرويد ويونغ.* هل تعتقد أن الشعر العربي مهيأ لانعطافة نوعية في مساره الحالي؟الشعر ليس كتابة فحسب، بل هو فعل إنساني بالأساس، والكتابة آخر مرحلة من مراحل الشعر، فالشعر لا يصنعه جيل بل أجيال.* لمناسبة حديثك عن الأجيال كيف تنظر إلى هذه القضية؟ قضية الأجيال لا تعدو أكثر من كونها «إثارات صحافية» دخلت إلى الحياة الثقافية وأحاديثها اليومية من خلال الصحافة، إلا أنها ليست ذات رسوخ نقدي.* بعض الشعراء لا يجدون لهم مكاناً بين الشعراء، فيحاولون أن ينسبوا أنفسهم إلى جيل معين أو إلى مدرسة شعرية معينة.أنت الآن وريث تراث شعري عمره أكثر من ألفي سنة، لكنك لست مطالباً بإعادة إنتاج هذا التراث.* أنا أتساءل كم من الشعراء أدركوا هذه الحقيقة؟ثمة شعراء أشبه بذرات عائمة في الفضاء وليس لها وصول، فهم غير قادرين على الطيران والتحليق.* وقضية الأشكال أو الأجناس هل هي بدائل من بعضها أم تطوير داخلي ونمو طبيعي لاحتمالات الشكل الشعري؟ قضية الأشكال الشعرية من عمودي إلى تفعيلة إلى قصيدة نثر، هي أشبه بمحاولات النعامة لإخفاء رأسها بالتراب.* تقصد الاختباء خلف الأشكال الشعرية.الاختباء خلف الشكل الشعري لا يعنيني، ما يعنيني حقاً هو الإبداع.* هذه الأسئلة وغيرها تضعك أمام سؤال هل الكتابة إنشاء؟ أم إنجاز لغوي محض؟ أعتقد أنه لابد من دوافع تقود إلى مغادرة شكل شعري إلى آخر مختلف، لا بد من مشروعية ترسخ أهمية المغادرة وتبررها، وبعد هذا لا يهم الشكل الذي تكتب به.* البياتي الذي تعايش مع المنافي، ظل يفتش عن جماليات الأماكن الجديدة من خلال مغامرة وجودية، مغامرة لغوية.عندما يتجاوز الشاعر حدود آخر منفى له على الأرض يطلق صيحة هي أشبه بصيحة الإنسان الذي واجه الطوفان في الملحمة البابلية القديمة.* كلما حاول أن يستعيدها أو غل أكثر فأكثر في تلك المجاهل المائية الصحراوية.وعند ذلك يتساوى عنده الليل والنهار، النور والظلمة، والألم والسعادة، فتصبح كل المنافي وطناً واحداً لكنه وطن خرافي.* إنها عملية مرهقة ومريرة للإنسان المنفي أن يمارس التأقلم، لعبة الفصول الأربعة والارتباط بالتقويم والآخر.إذا كان شاعراً عليه أن يحترق في حضوره المكاني لكي ينتقل إلى المكان الأسطوري أو الميثولوجي والمكان التاريخي.* لذلك تؤكد دائماً أن وطنك العالم، أو ما هو أبعد من العالم، أو كما تقول وطني هو الذي يسكن المستقبل.قد أحلم بالعودة إلى بغداد بعد موتي وولادتي المائة، أي أني أحب أن أولد أكثر من تسعين مرة في المنفى، وفي آخر مرة قد أفكر بالعودة.* انتقلت إلى رحمة الله في الثالث من أغسطس عام 1999.ودفنت بناء على وصيتي، في مقبرة الشيخ محيي الدين بن عربي، بعد أن قدمت كل ما أملك من حب لهذا العالم.* ما هي كلمتك الأخيرة التي تتمنى أن تبقى في روح الشعراء الشبان في كل مكان.العبوا لعبة تغريب المكان، لعبة أن تكونوا واقعيين، فيما أنتم توهمون بالواقع.
البياتي: ليست كل الطرق تؤدي إلى روما
08 مايو 2015