المعمار التراثي ذاكرة باقية تتحدى الزمن، تتغير التفاصيل ويبقى الأثر شاهداً على حضارة شعب وتاريخ وطن، وهنا تتخذ مفردات التراث معاني غير محددة، لتضيء فصلاً من فصول حياة قوم ذهبوا، لكنهم وثقوا وأرخوا تفاصيل حقبة جميلة. في المحرق، مدينة اللؤلؤ والبحر، مازال العمران التراثي شاهداً على سيرة تاريخ وأناس وتجارة ووطن، إذ بقيت البيوت والمباني المعمارية شاهداً من الماضي يحرس التاريخ ويصونه في قلب المدينة القديمة.الجدران العتيقة باتت هناك جزءاً من سيرة حضارة، ومازالت تواصل حتى اليوم صياغة الهوية المكانية والبيئية، وتحفظ في نسيجها العمراني الحميم توثيقاً لحياة مرت من هنا، ولاتزال أنفاس من عاشوا تتردد في المكان، وأغاني البحارة ترجع صداها الجدران.ذاكرة وطنالمحرق القديمة، نموذج إنساني وعمراني لقدرة الأمكنة على التأريخ والتوثيق، حيث تمكنت من خلال بيوتها ومبانيها وتفاصيل عمرانها أن تحتفظ بالغنى والجمال الذي يميز المدينة البحرينية القديمة، وأن تجسد من خلال شوارعها وأزقتها نموذجاً حياً لعمران تلك المدن. هذه السيرة والنسيج الحضري القديم، ليست مركونة لذاكرة البحر واقتصاد اللؤلؤ فحسب، فحتى مع ظهور تقنيات البناء الحديثة وثورة النفط عام 1930، بقيت هذه المدينة تدون تغيراتها وتوسعها عبر مشاريع ردم الأراضي وتبدل تقنيات البناء وطرز العمارة والتصميم، ما أضفى على المدينة روحاً عمرانية جديدة، زادت من ضرورة حفظ النسيج العمراني القديم للمدينة وتطويره وإعادة تأهيله.مراحل مدينة البحر واللؤلؤوبحسب التأريخ الزمني، فإن عمران مدينة المحرق يتوزع على 3 مراحل رئيسة، تنتمي الأولى إلى الفترة ما بين 1930-1940 وما قبلها، حيث العمران التراثي آنذاك يتميز باستخدام الحصى والاعتناء بالتفاصيل الصغيرة والمدهشة، المستوحاة من العمارة الإسلامية والأحجبة المنقوشة، وتتيح خصوصية عالية للمعمار. المرحلة الثانية تعرف بمباني الفترة الانتقالية ما بين 1950-1970، وتعد من أهم المشاهد العمرانية في هذه المدينة العريقة، باعتبارها صلة الوصل بين العمارة التراثية والنقلة الحداثية اللاحقة. هذا المشهد تحديداً من حكاية المكان، تبدو فيه ملامح العمران موسومة باستخدام المواد الأكثر حداثة، والعناصر الإضافية المشيدة بالطابوق والحديد بدلاً من الخشب والحصى.ورغم هذا التداخل وتأثيره على تقنيات وأساليب البناء، إلا أن العمارة البحرينية القديمة احتفظت بالكثير من خطوط التصميم القديم والتراثي، وهو ما يجسد أهمية تاريخية تحفظ التراث الإنساني للفترة السابقة. وأتبع هذه المرحلة التوجه الحداثي عرفت به المباني منذ عام 1980، وبدت فيها محاولات غير مستقرة لتشكيل عمران جديد للمنطقة.حماية الهوية الوطنيةولتبقى هذه الذاكرة، فإن «الثقافة» وعبر اهتمامها بالعمران الإنساني والتراث الوطني، هي الفكرة الأجمل التي تراهن على أن يكون العمران أداة حفاظية للإبقاء على هوية المكان وتاريخ المدن. ويمكن من خلال الترميم واستعادة النسج الحضري للمدن، أن تحمي الثقافة تلك الحضارات والمكتسبات من النسيان أو من التآكل، أمام ما تصنعه المدن الحديثة والمد العمراني المعاصر.