شهدت حياة وزير الخارجية السعودي الراحل الأمير سعود الفيصل محطات دبلوماسية تاريخية، كان فيها صوت الأمة العربية والإسلامية باقتدار. وكان قد تم تعيين الأمير سعود الفيصل وزيراً للخارجية في أكتوبر عام 1975، وهو العام نفسه الذي كان فيه «جيرالد فورد» رئيساً للولايات المتحدة، كما انتهت في السنة نفسها «حرب فيتنام» وبدأت حينها شركة مايكروسوفت العملاقة في الظهور، حيث يعتبر الفيصل صاحب أطول فترة بقاء في المنصب كوزير للخارجية مقارنة بنظرائه في دول العالم، حيث عاصر 4 ملوك سعوديين وأتم عند إعفائه من منصبه، أربعة عقود «1975 2015-» من العمل الدؤوب والجهد اللامتناهي في خدمة السعودية والوطن العربي.ولد الأمير سعود الفيصل في مدينة الطائف في 2 يناير 1940، وهو ابن الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود، ووالدته الأميرة عفت الثنيان آل سعود، وقد نشأ وتربى في مدرسة الفيصل الأب والملك، ونهل منه الأدب والثقافة الواسعة، والإدارة المحنكة والدبلوماسية الرفيعة، واكتسب منه العديد من الصفات الشخصية، كالحكمة والتروي والنظرة الثاقبة، والأمير حاصل على شهادة البكالوريوس في الاقتصاد من جامعة برنستون في الولايات المتحدة عام 1964، وتقلد أول مناصبه مسؤولاً عن العلاقات النفطية في شركة بترومين، وتدرج في المناصب حتى عين وكيلاً لوزارة النفط والثروة المعدنية في عام 1971 ولمدة 5 أعوام.وفي عام 1975، تولى الأمير الشاب حقيبة الخارجية، إذ كان عمره وقتها 35 عاماً، فيما كانت المنطقة العربية تمر بمرحلة أزمات عدة ومازالت، وتمكن الفيصل من قيادة دفة الدبلوماسية بحنكة واقتدار، وهو ما جعل الكثيرون يلقبونه بـ «فارس الدبلوماسية»، كما كانت خبرته وثقافته الواسعة، واضحة للعيان خلال المؤتمرات الصحافية، فقد كان متحدثاً لبقاً لا تتعثر كلماته، متنقلاً من العربية إلى الإنجليزية أو الفرنسية، كما لا تخلو مؤتمراته الصحافية إضافة للجدة والحزم، من روح الدعابة والسخرية التي يتميز بها أثناء ردوده على إجابات الصحافيين.وزير خارجية العربلم يكن سعود الفيصل وزيراً للخارجية السعودية فقط، بل كان أيضاً وزير خارجية المنطقة العربية، بحسب وصف الدبلوماسيين العرب، حيث تولى منذ تعيينه تقديم الدعم السياسي والمادي للقضايا العربية سواء عن طريق طرح مبادرات التسوية أو القيام بجولات مكوكية في كل دول العالم للحصول على الدعم الدولي للقضايا العربية، حيث لعب دوراً قيادياً في الجهود الدبلوماسية في الشرق الأوسط لإقرار حل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي، وبذل جهوداً مضنية لتحقيق التوافق العربي حول مبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2002.الحرب الأهلية اللبنانيةواستطاع سعود الفيصل إدارة الكثير من الملفات العربية الشائكة، ففي لبنان والتي صنفت حربها الأهلية كأصعب القضايا التي عاشتها المنطقة في الفترة من أبريل 1975 حتى أكتوبر 1990، استطاعت الدبلوماسية السعودية أن تحقق اختراقاً نوعياً وصلت بالأزمة إلى الهدف المنشود، حيث نجح الأمير سعود الفيصل في جمع كل أطراف الصراع في أغسطس عام 1989 في السعودية ولعب دوراً في تذليل العقبات بين الأطراف المتصارعة، ليوقع الجميع اتفاق الطائف الذي أنهى المجازر والصراعات الدموية التي عاشتها لبنان طوال هذه الفترة.سياسة الحزموكان واضحاً في خطابات الأمير سعود الفيصل رفض السعودية لأي عدوان على الدول العربية، وكان يؤكد في كل مناسبة رفضه العمليات العدوانية المتكررة على الأراضي الفلسطينية، وكان له مواقف معادية للكيان الإسرائيلي، حيث دأبه على انتقاد ممارساته في الأراضي العربية المحتلة، كما كان الفيصل رافضاً لغزو الولايات المتحدة للعراق.وحذر بشكل علني إدارة جورج بوش بعدم غزو العراق، وعمل على وضع تصور من شأنه أن يؤدي إلى حماية العراق من التعرض لضربة عسكرية، فيما كانت آخر مواقفه المشرفة رده القوي على رسالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالقمة العربية الأخيرة في شرم الشيخ.دبلوماسي فريدوفي أزمة مكافحة الإرهاب، اختار الفيصل خطاً دبلوماسياً فريداً ومتميزاً، يقوم على الصراحة والوضوح، حيث كان للفيصل حضور غير عادي طيلة مرحلة الأزمة، فمنذ هجمات 11 سبتمبر 2011 دخل في معارك دبلوماسية شتى مع نظرائه في الغرب من أجل التأكيد عليهم وإقناعهم بأن الإرهاب ليس له أية علاقة بالإسلام، وهو ما نجح فيه بقوة غيرت من وجهات نظر الكثير بحسب الكثير من الدبلوماسيين والسياسيين في الغرب، وكان يؤكد دائماً أن الرياض تسعي لوضع الحد من الأنشطة الإرهابية التي بإمكانها أن تشكل تهديدات أمنية خطيرة ضد حلفائها الغربيين.انحياز للشعوبوفي مرحلة الربيع العربي، اتسمت سياسة سعود الفيصل بالثبات الشديد والقدرة على تبني مواقف منحازة للشعوب، وهو ما ظهر جلياً في موقف السعودية إزاء الأزمة السورية، ووقوفه ضد نظام بشار الأسد ودعمه للمعارضة السورية، فضلا عن موقفه في اليمن وتبنيه ودعمه للمبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، وفي مصر حين قامت ثورة 30 يونيو 2013، وفرت الدبلوماسية السعودية كافة سبل الدعم للقاهرة، ووقفت في وجه الضغوط الدولية والإقليمية التي تعرضت لها مصر في ذلك الوقت.لا للدبلوماسية السريةويحظى سعود الفيصل بتقدير واحترام جميع الدبلوماسيين والسياسيين حول العالم، سواء من الدول الخصوم، والأصدقاء، حيث تمكن خلال دبلوماسيته الهادئة ومواقفه من أن يكون صوت الأمة الإسلامية والعربية، كما كان من الدبلوماسيين القلائل الذين يرفضون مبدأ الدبلوماسية السرية، حيث كانت مواقفه من مختلف القضايا معروفة ومعلنة للعالم أجمع، بحسب وصف المراقبين منه، والذين اكدوا أن علاقته بموظفيه والعاملين معه كانت إنسانية في المقام الأول، وكان أيضاً يقدس الوقت لأبعد درجة، ومشغول بعمله لأقصى الحدود، جدوله اليومي لا هوادة فيه، ولا تتوقف جولاته الخارجية ورحلاته المكوكية حينما يتعلق الأمر بمصلحة وطنية.
عميد الدبلوماسية.. صوت الأمة العربية والإسلامية
10 يوليو 2015