بقلم - د. محمد نعمان جلال:في القرن الرابع عشر عندما زار ابن خلدون مصر ما أن وطأت أقدامه أرضها حتى وجدها مختلفة عن غيرها من البلاد، ولذلك قال عبارته المشهورة «مصر أم الدنيا»، وقرر البقاء فيها، وعندما تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي شؤون مصر طور العبارة مستخدماً المصطلح الشعبي بأن وصف مصر فقال «مصر أم الدنيا وقد الدنيا»، وأضاف مصطلحاً آخر حول مسؤولية مصر القومية، فقال «مسافة السكة»، وكان ذلك منبع البهجة السرور والطمأنينة لشعب البحرين وقيادته. فشعب البحرين شعب عربي أصيل، وهو من أكثر تلك الشعوب حباً لمصر، وشعر أن مصر وقيادتها تعيد تأكيد الالتزام القومي، دفاعاً عن الأمن القومي العربي، وحماية لأي وطن من أوطانه. والشعب البحريني يتشابه مع شقيقه المصري في الانتماء إلى الحضارات العريقة منذ حضارة دلمون، مما دفع هيرودوت، عندما زارها أن يشيد بعراقتها الحضارية، وإذ كانت مصر تاريخياً عرفت بأنها «هبة النيل»، كما سماها هيرودوت، فإن كاتب هذه السطور في كتابه المشترك مع الدكتور مجدي المتولي عن «هوية مصر»، الذي نشر في أوائل التسعينات، أطلق عليها أنها «هبة المصريين»، لتقديره أن الأنهار كثيرة في العالم، والثروات الطبيعية كثيرة أيضا، ولكن الذي يبني الأوطان هو الشعوب والقيادات، وها هي الصين تغيرت في عشر سنوات من دولة تعاني المجاعات إلى دولة تغزو العالم بمنتجاتها.إن أصحاب الحقد الحضاري كتبوا أن الذي بنى الحضارة الفرعونية هم أناس من كوكب آخر، أو أنهم من أعراق أخرى، وإن المصريين الحاليين لا يمتون إليهم بصلة، ولكن ما فعله السيسي في 3 يوليو 2013، يؤكد الحقيقة الواضحة إن مصر بناها مصريون حضارة وتاريخاً، وهم سيبنونها حاضراً ومستقبلاً، فشعب مصر هو الذي بني قناة سيزوستريس، ثم أعاد بناءها في الحضارة الإسلامية، باسم قناة أمير المؤمنين، وفي عصر الخديويين توفيق وإسماعيل، سموها قناة السويس، وفي عصرالسيسي، سميت قناة السويس الجديدة، ومازال المنكرون يكابرون، وتبقى الحقيقة كاشفة والكذب والاستكبار يذهب جفاء. وها هي حرب أكتوبر خير شاهد بعد أن ردد خبراء الهزيمة أن «قناة السويس حاجز مائي لا يمكن اختراقه، وإن الجيش الإسرائيلي لا يقهر»، لكن شعب مصر وجيشه الوطني أثبت عكس ذلك، وأذهل العالم ببناء قناة السويس الجديدة في عام واحد. إن زيارة الرئيس السيسي للبحرين تؤكد صدق وصلابة علاقات الدولتين والإبداع الحضاري في حضارة دلمون، أرض الخلود، وحضارة مصر العريقة أرض الإبداع العظيم، بآثارها وإرادة شعبها الذي روض نهر النيل، وأنشأ الحضارة التي لم يحافظ عليها بعض أبنائها، ولم يوفوها حقها في التعريف بها، أو في حمايتها من الطامعين والمخربين. إن عظمة الشعب المصري تأتي في لحظته الابداعية في عبور القناة، وفي طرد الهكسوس، وفي توحيد البلاد في عهد مينا، وفي تخليص مصر من حكم المرشد في عهد السيسي، ولم يكن أحمس أو محمد علي باني نهضة مصر في القرن التاسع عشر أو الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وثورة 1952، أو الرئيس الراحل أنور السادات بحرب أكتوبر 1973، أو المشير محمد حسين طنطاوي بوقوف الجيش مسانداً لثورة 25 يناير، أو السيسي بمساندة الجيش للشعب في ثورة 30 يونيو، سوى قيادات شاء لها الله أن تضطلع بالمسؤولية في لحظة تاريخية فارقة. إن بعض قادة مصر البارزين بعد إنجازاتهم المبهرة لم يواصلوا المسيرة، وما يهمنا هو العبرة من عدم المواصلة، وهو الالتجاء إلى قيادات ليست لها كفاءة فنية وقدرة على العمل ومواصلة المسيرة، ومن ثم تعثرت العملية الإصلاحية، والانطلاقة الكبرى التي بدؤوها. العبرة هنا والحكمة الأزلية دعوة قائد المسيرة لضرورة تحاشي الأخطاء التقليدية للقيادات وللشعب المصري، بعد العمل المبهر وتحاشي الوقوع في الفخاخ المنصوبة، مما أسماه البعض «الدولة العميقة»، التي قاومت الإصلاح وأفسدته من خلال تحويل الحاكم البشر إلى شبه إله، بالنفاق الذي كتب عنه كتاب كبار وشعراء ومطربون، بقولهم «تفوت على الصحراء تخضر»، و«مصر الدولة العميقة»، هذه تحقق ذلك بنقل الزراعات والخضرة من مكان لآخر، عندما يزوره الرئيس فيتصور الوهم حقيقة، كما حدث في الرواية الدانماركية المشهور «زي الإمبراطور» وهو زي خادع ووهمي، من أبناء السوء والمنافقين والخادعين ومستشاري الفساد والإهمال. وهذا يدعونا لإبراز أهمية أن يكون اختيار المعاونين للحاكم اختياراً صحيحاً، وأن يشجع الحاكم من يقول له «لا بصدق، أمانة» وليس من يقول له «برقبتي يا ريس». وإذا كثرت أغاني وأهازيج المغنيين ونفاق المنافقين، فإن الإنجاز العظيم سوف ينهار، وتتوقف المسيرة، وتتراجع مصر وتتقهقر. وندعو الرئيس لتجنب هذه المنزلقات وأن يبعد عن المسيرة المنافقين ويضع أصحاب الثقة موضع الاختبار من حيث الكفاءة وليس الثقة، وحدها، فالطريق الى جهنم مفروشة بالنوايا الحسنة، ولعل إقالة وزير العدل الذي أهان شعب مصر، ووزير الزراعة المتهم بالفساد، ومحافظ الإسكندرية المتهم بالإهمال، من الدلائل البارزة على أن قيادة السيسي تمتلك شجاعة القرار، ولكن هناك قيادات أخرى عديدة مازالت لم تقدم إنجازات ومازال شعب مصر يعاني من سوء التعليم والرعاية الصحية وغيرها من الخدمات حيث الفساد وعدم الانضباط والقمامة في شوارع القاهرة والمحافظات، فالحكم المحلي هو في معظمه رمز من رموز الفساد، وما ندعو إليه الرئيس السيسي أن يدرك ما قاله الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي للرئيس الأسبق حسني مبارك على الملأ «إذ كنت قدرنا أعاننا الله عليك، وإذا كنا قدرك أعانك الله علينا». إن إرادة الله شاءت أن تكون في موقعك، وعليك أن تعمل بقوة وصلابة من أجل بناء مصر بكل المصريين ولكل المصريين، وليس بفريق واحد من أهل الثقة، أو لمصلحة فريق دون آخر، فأبناء مصر الذين سارعوا في التبرع بأموالهم، ونساء مصر الذين باعوا وتبرعوا بأثمان حليهم لبناء جامعة القاهرة في بداية القرن العشرين، قادرون على فعل معجزات في التعليم والصحة والخدمات والإنتاج، إذا لمسوا أن القيادة تفسح لهم الطريق، وشباب مصر لا يجب أن يهمل بعد أن قاد ثورتين، ونساء مصر أثبتن صلابة تفوق الرجال والجميع يتطلع لآلية المشاركة وآلية الإنجاز، ومصر دائماً ينظر شعبها للحاكم كما ينظر للنيل، فالنهر يهبه الماء الذي هو أساس الحياة، والحاكم هو القدوة فإذا صلحت القدوة تحقق الإنجاز.زيارة السيسي للبحرين تأتي عرفاناً بجميل القيادة البحرينية التي لم تتردد منذ ثورة 30 يونيه، أن تكون في مقدمة الصفوف، تأييداً لمصر، وحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين المفدى، الذي لم يتأخر عن المشاركة في كل مناسبة يدعى إليها ولديه حب عميق لمصر وشعبها، وإيمان بقدرة الشعب والقيادة، في بناء المستقبل، وفي دفاعهم عن عروبة البحرين، كما فعل عبد الناصر في استقبال وفد البحرين في أواخر الستينيات، ولهذا رحب شعب البحرين بعبد الناصر عندما زارها ومر بجزيرة المحرق معقل الوطنية البحرينية، والعراقة القومية، وحملوه على رؤوسهم إيماناً بمواقفه.إن شعب البحرين وقيادته يقدرون ذلك أيما تقدير، وهو مثل الشعب المصري لا ينسى الجميل، ويتسم بالوفاء العميق، ولهذا كان شعب البحرين وقيادته يتطلعون إلى زيارة الرئيس السيسي، وها هي تحققت الآن، والبحرين تقترب من الاحتفال بالعيد الوطني الذي أثبت فيه شعب البحرين أنه شعب عربي أصيل، ورفض الادعاءات الباطلة ضد عروبته، والتي تستخدم الدين تارة والتاريخ تارة أخرى، لإرضاء طموحات وهمية. ما نريد قوله شكراً لشعب البحرين ولملك البحرين على مساندته لمصر وثورة 30 يونيو، وشكراً لرئيس مصر السيسي لوقوفه إلى جانب البحرين ومساندته لهويتها العربية. إن الهوية العربية هي أساس حضارتنا والتراث الإسلامي هو لحمة هذه الحضارة لبناء المستقبل، والإسلام لا يعرف التفرقة ولا الأحزاب، وهو عقيدة سمحاء وليس سياسة حزبية تمزق الأمة والوطن، وهذا ما يساعد على بناء مصر القرن الحادي والعشرين، ويعزز علاقاتها بشقيقاتها العربيات وفي مقدمتهم السعودية والبحرين، وباقي دول مجلس التعاون، التي لم تتوانى عن تقديم الدعم المادي والأدبي، ورحم الله الأمير سعود الفيصل، الذي كان مدافعا قويا عن مصر وثورة 30 يونيو في المحافل الدولية، كما كان مدافعاً عن البحرين وعروبتها واستقلالها، ولذا حق أن يشيد به وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد بن محمد آل خليفة، كما حق علينا كشعب مصر أن نتذكر موقفه في مؤتمر باريس، ودفاعه المتميز عن مصر، والملك فيصل بن عبدالعزيز رحمه الله، صاحب قرار استخدام النفط كسلاح في حرب أكتوبر، والملك عبد الله بن عبدالعزيز، رحمه الله، صاحب مبادرات دعم مصر سياسياً واقتصادياً ومالياً، رغم الضغوط الاقليمية والدولية، كما نتذكر سمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، ومن بعده أنجاله الذين هم من أكبر داعمي مصر في أوقات الأزمات، هذه حقوق الشقيق على شقيقه، يجب القيام بها والتعريف بها للأجيال الجديدة. إن بناء الأوطان مهمة صعبة، وحقاً قال الشيخ الراحل محمد متولي الشعراوي في إحدى كلماته المأثورة «إن الثائر يثور كالبركان ثم يهدأ ليبني الأوطان». ونقول للرئيس السيسي إنك قمت بثورة، وقدت الجيش تأييداً للشعب، والآن عليك أن تبني البلد من أجل الشعب بأسره، وليس من أجل قلة ممن تسببوا في هزائم وفساد، ونافقوا غيرك من الحكام، ودعوا لنظرية التوريث أو أصحاب الفكر اللاهوتي، الذي لا يمت للإسلام الحنيف بصلة. ولا ينبغي أن تنسى وصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم بشعب مصر القبطي فهم لحمة الوطنية المصرية عبر العصور وهم الذين أحبطوا مؤامرات المتأمرين المعاصرين. ونكرر، إن مصر اليوم في مفترق طرق مهم، تحتاج لإعادة بناء نظامها البيروقراطي، ولترميم مؤسساتها بحسن اختيار القيادات ذات الكفاءة وذات الثقة وذات الإنجاز، وضرورة عدم التردد في تغيير أي مسؤول يهتز أمام المسؤولية أو اتخاذ القرار.لقد عدت للتو من زيارة للصين، وتحدثت مع كثير من الأصدقاء معاتباً إياهم، على التردد في دعم مصر، فاشتكوا كثيراً من البيروقراطية، ومن تردد الوزراء وتفاوضهم بدون شفافية، فإذا قاربت الصفقة أن تعقد، يتحدثون عن نظام العطاءات والمناقصات العقيم الذي لن يبني مصر، وستظل قوى الظلام متحفزة للانقضاض عليها واختطاف ثورتها، لضعف الإنجاز، وإن مصر من أغنى الدول بشبابها وعلمائها ورجالها ونسائها، الذين أثبتوا وجودهم في المواقف الصعبة، ولا يجب إذلالهم بالضرائب المتتالية وارتفاع الأسعار، وإنما على المختصين وأساتذة المالية والاقتصاد والصناعة أن يقدموا حلولا مبتكرة كما فعل سيدنا يوسف عليه السلام، فلم يفرض ضرائب، وابتكر الحل لمواجهة المجاعات بحكمته قبل خبرته. إن سياسة فرض الضرائب عملاً بسياسة الملتزم في القرن الثامن عشر من أسهل الحلول التي تثير الشعب ضد حكامه، وهذا ما فعله وزير مالية سابق مازال تلاميذه يتولون المناصب.تلك رسالتي بمناسبة زيارة الرئيس السيسي ودعواتي له بالتوفيق لخدمة مصر وشعبها والفقراء منهم قبل الأغنياء، خاصة الذين نهبوا أرضها واستولوا على مصانعها في غفلة من الزمن وخدعوا حكامها ونافقوهم. إن شعب مصر الذي خرج بالملايين في 25 يناير و30 يونيو، وفي المشاركة بانتخاب السيسي رئيساً عزف عن المشاركة في انتخابات نيابية لعدم اقتناعه لما أحاط بها من مهاترات ومماطلات. إن العدالة المتأخرة هي الظلم نفسه، وهذه رسالتي لقضاء مصر الشامخ، الذي أرجو أن يضيف لشموخه سرعة الإنجاز، ولشباب مصر اصبروا قليلاً، واستمروا في العمل، من أجل بناء مصر، كما كنتم في الماضي، والمستقبل أمامكم واعد بإذن الله.