بقلم-د. خالد محمد الرويحي:لقد عاشت الدول النامية -أو كما كان يطلق عليها في السابق دول العالم الثالث- في كنف الدول الاستعمارية منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، لسبب رئيس وهو التفوق الصناعي الذي أكسب الدول الغربية، أو كما كان يطلق عليها «دول الشمال» القوة التي تستطيع من خلالها غزو أي دولة من «دول الجنوب». وتلك القوة التي امتلكتها الدول الغربية لم تأت صدفة أو من الفراغ، بل تعود أساساً لوجود عامل استراتيجي مهم في المجتمعات الغربية -للأسف لا تنافسه فيه الدول النامية- وهو قدرة الدول الغربية على الاستفادة من التراكم المعرفي، واستغلال ما تفرزه الثورات العلمية -مثل الثورتين الصناعية الأولى والثانية- بالطريقة التي تخدم مصالحها ويساعدها على تطوير بناها التحتية وأنظمتها المؤسساتية. وقد انعكست تلك الجهود إيجاباً على مجتمعات الدول الغربية، وخصوصاً في دفع مشاريعها التنموية، العسكرية منها والمدنية. وتاريخياً، نرى أن حدة ومستوى النزعة الاستعمارية لدى دول «الشمال» قد ازدادت وتنوعت في أساليبها بعد اكتشاف النفط في مختلف مناطق الشرق الأوسط، وعلى وجه الخصوص في دول الخليج العربية لما تبين من حجم المخزون الهائل الذي تمتلكه للنفط والغاز الطبيعي. فتعددت الاستراتيجيات وكثرت المحاولات للتحكم في هذه الثروات من قبل الدول الغربية، وكانت معظمها تتمحور حول تقديم الحماية العسكرية لدول الخليج العربية -عبر مشاريع وتحالفات مختلفة- كانت تهدف جميعها في حقيقة الأمر إلى ضمان وجود المظلة الأمنية اللازمة لضمان أمن مصادر الطاقة، وتأمين سبل نقلها وتصديرها، كما كان ملاحظاً طيلة الثمانية عقود الماضية.العالم الجديد في طور التشكّلومع التطور المعرفي الكبير الذي شهده العالم عند نهاية القرن العشرين وظهور الثورة المعلوماتية التي بدأ معها العصر الرقمي، وما فيه من تقنيات وأدوات ووسائل تخطت حدود الخيال في إمكانياتها والقدرات الخفية التي تحتويها، تشكل الفضاء العالمي الجديد، الذي فتح المجال أمام جميع الدول، المتقدمة منها والنامية، للاستفادة من مخرجات الثورة المعلوماتية من منتجات رقمية، في شتى صورها وأشكالها، الملموس منها وغير الملموس.وبسبب القدرات الخارقة التي تمتلكها التقنيات الرقمية، حدث تغير كبير خلال العقد الماضي لمفهوم القوة على المستوى الدولي، وبدأت تظهر دول جديدة تنافس الولايات المتحدة على زعامة العالم، وتشاركها في الاستفادة من خيرات وثروات الدول النامية. وهذا يدعم بشكل أساسي قرب عودة العالم إلى التعددية القطبية، مع ضمور القوة الأمريكية التي كانت «مطلقة» منذ نهاية الحرب الباردة وحتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولعل أفضل الأمثلة على التغير الكبير للقوة في المشهد العالمي ما جرى خلال الأسابيع القليلة الماضية من تحول جذري في السياسة الخارجية الروسية، وتدخلها الفعلي في الأزمة السورية، ضاربة بعرض الحائط كل المحاذير السابقة التي وضعتها الدول الغربية أمام روسيا فيما يتعلق بالمشهد السياسي العالمي.الطاقة في الفضاء العالمي الجديد.. نهاية الاستعمار القديممع التطور التقني المعاش في الفضاء الجديد، نجحت مراكز البحث والتطوير المتخصصة في العديد من الدول المتقدمة من الوصول إلى مصادر أخرى للحصول على الطاقة، قدمت بدائل عملية محتملة -غير النفط والغاز- ستتمكن تلك الدول من الاعتماد عليها خلال السنوات القادمة. وهذا بالطبع يعطي العديد من الدلائل تتعلق بالأسباب الحقيقية التي دعت الدول العظمى، وخصوصاً الولايات المتحدة، لتغيير سياستها الخارجية تجاه حلفائها في دول مجلس التعاون. بل ووصل الأمر أن تتحالف مع ألد أعدائها وهي إيران، في سبيل الوصول إلى الوضع الإقليمي الأنسب للأمريكيين.لذلك نجد أن الدول الغربية تتبنى خيارات جديدة، ترتبط مع توجهاتها لتقليل اعتمادها على منطقة الشرق الأوسط كموقع استراتيجي، وبالتالي وضع السيناريوهات التي تتناسب مع هذه المعطيات.فالحديث عن خروج بعض الدول الغربية من المنطقة، وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية، وقدوم دول عظمى أخرى، مثل روسيا والصين وبريطانيا، هو حديثٌ يتعلق بالمقام الأول عن تغير قواعد اللعبة في الساحة الدولية، التي تتخذ من المصالح الهدف الأساس لبناء كل تحركاتها وتحالفاتها واستراتيجياتها.الفوضى.. بوابة العبور للاستعمار الجديدالمشاهد حالياً أن الفضاء العالمي الجديد لم يجلب معه إلا الفوضى والدمار لمنطقة الشرق الأوسط، وهو وضع حير معظم المحللين السياسيين والأمنيين في كيفية فهمه واقتراح الاستراتيجيات المناسبة لمواجهته أو تجاوزه. والسبب وراء ذلك أن أغلب التحليلات السياسية والأمنية تعتمد على النمط الاستراتيجي التقليدي لفهم ما يجري من حولنا، دون وجود الخبرات الكافية لفهم المحيط العلمي والمعرفي الذي يستظل من تحته الفضاء العالمي الجديد. لابد أولاً من الجزم بأن القدرات التي توفرها القوة الرقمية لاتزال غير مكتملة المعالم حتى لدى الدول الغربية، فتلك الدول مازالت تتعلم من التجربة والخطأ، وتطور قدراتها وتقنياتها على هذا الأساس.والملاحظ أن القدرات الروسية في الفضاء العالمي الجديد تتفوق بعشرات المرات على مثيلاتها في الدول الغربية، دون بالطبع نسيان ما تمتلكه الصين والهند في هذا المجال. السؤال المهم هنا، أين موقع دول مجلس التعاون الخليجي في هذا العالم الجديد؟ وهل سيعيد التاريخ نفسه وتبدأ الدول الغربية في إقناع دولنا بمد مظلة حمايتها للحصول على صفقات اقتصادية تضمن من خلالها الدول الغربية وجود دعم مضمون يساعدها على تخطي العقبات الاقتصادية التي تواجهها في ظل الوضع الاقتصادي العالمي المتردي.القوة الخليجية.. بنكهة ومذاق وطنيلقد كتبت هذا الموضوع أثناء مشاركتي في ملتقى أبوظبي الاستراتيجي الثاني الذي عقد في الأسبوع الماضي ولذلك بعد أن قال أحد الخبراء المشاركين في الجلسة الخامسة من المؤتمر تحت عنوان «القوة في العصر الرقمي»، حيث قال «لماذا يوجد شح في مشاركة خبراء من الخليج في هذا الموضوع الهام، على الرغم من أن تقنيات العصر الرقمي انتشرت في جميع أنحاء العالم». وملاحظة هذا الخبير العالمي كفيلة بدق ناقوس الخطر للمسؤولين في المنطقة لضرورة التحرك بما يتناسب مع التهديدات والمخاطر التي تلوح في أفق المستقبل المنظور.وأمنيتي المخلصة للمسؤولين في دول مجلس التعاون الخليجي بإعادة النظر في أسلوب تطوير استراتيجياتنا الدفاعية لمواجهة حروب المستقبل القائمة على مفهوم الحروب الهجينة «Hybrid» بمفهومها الحديث. والأخذ بعين الاعتبار أن استيراد الأسلحة الرقمية -خصوصاً الدفاعية منها- لن يخلو من الاختراق من قبل مصنعيه، وبالتالي تعريض دولنا للخطر الدائم شبه المفتوح. آخذين بالعلم أن تطوير الأسلحة الرقمية ليس بنفس تعقيد تطوير الأسلحة التقليدية من ناحية مكوناتها والميزانيات المطلوبة. فجامعاتنا الوطنية قادرة على توفير العقول الوطنية لحماية مستقبلنا الخليجي، بشرط توفير الدعم المناسب لهذه المؤسسات وتبني الاستراتيجيات القادرة على تحقيق الاكتفاء الأمني بالخبرات الخليجية الوطنية.المدير التنفيذي لمركز «دراسات»