بقلم: د. خالد محمد الرويحيفيما لاتزال السلطات الفرنسية تحاول الحصول على التفاصيل الدقيقة للعمليات الإرهابية المتزامنة التي تم تنفيذها في باريس مطلع الأسبوع الماضي، فإن المعلومات الأولية المتوفرة حتى الآن تبين أن الإرهاب الحديث قد انتقل إلى مستويات جديدة لم تكن لتصل إليه بدون ما تقدّمه التقنيات الرقمية من أدوات يمكن تطويعها لتنفيذ مثل هذه الأعمال الشنيعة. ولعل من أهم ما تم توفيره من معلومات ذات الصلة ببعض تفاصيل تلك العمليات الإرهابية هو الجزء المتعلق بالأداة المحورية التي تم استخدامها للتخطيط والتواصل بين أعضاء الشبكة الإرهابية. فقد تم التأكد من أن الإرهابيين قد استخدموا جهاز «البلاي ستيشن 4» الذي تنتجه شركة «سوني» -والمخصص أصلاً لألعاب الفيديو- لإدارة هذه العمليات وتنسيق الأدوار بين الإرهابيين والتواصل فيما بينهم.وفي رأيي فإن استخدام هذا الجهاز -المعقد تقنياً- لأداء مثل هذه المهام هو تحوّل ينبع من تفكير إبداعي بالغ الخطورة، وتطويع سلبي غير تقليدي للتقنيات الحديثة، يضيف بعداً آخر للعلاقة الوثيقة بين التقنيات الرقمية المتقدمة، وانتشار الإرهاب بين الأفراد، وسبل تجنيدهم في الجماعات الإرهابية العابرة للحدود. وأتوقع أن تزداد إدارة هذه الشبكات تعقيداً إذا تم إضافة التشفير الرقمي «الترميز» للمعلومات المرسلة عبرة جهاز «البلاي ستيشن 4»، أو غيرها من الأجهزة الرقمية الحديثة المخصصة للترفيه العائلي، بسبب الحماية الكبيرة للمعلومات التي يتم استخدامها في هذه الألعاب لمنع المخترقين من الحصول على نسخ مجانية منها.ويتطلب هذا الأمر إدراك حقيقة مهمة هي أن اتباع الوسائل التقليدية للإيقاع بالإرهابيين وتفكيك شبكاتهم لا تجدي نفعاً في الوقت الحاضر، وهي بالتأكيد ستكون بدائية جداً في المستقبل. كذلك فإن متابعة وسائل التواصل الاجتماعي والبريد الإلكتروني وغيرها من الحسابات الشخصية للأفراد لتحديد مواقع تواجد أعضاء الجماعات الإرهابية المفترضة، سيؤدي إلى زيادة انتشارهم بسبب محدودية الوسائل التقليدية في الوصول إلى الأهداف المطلوبة. فلا يوجد مفر من الإقرار بأن التقنيات الرقمية قد استطاعت تقديم أدوات غير تقليدية يمكن استخدامها لإدارة الشبكات الإرهابية المشتتة جغرافياً، بدءاً من كيفية اختيار أعضاء الشبكة، مرورا بأساليب إدارة هذه التنظيمات، إلى الأدوات والمواد المستخدمة في تنفيذ العمليات الإرهابية. وهذه هي الحقيقة التي يجب العمل على فهمها ومحاولة معالجتها بأساليب غير نمطية تناسب المستوى الفكري للجماعات الإرهابية.التواصل السري، من التشفير إلى الترميز الرقمي نقرأ في المذكرات والقصص كيف نجحت العديد من العمليات العسكرية خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية في وصول الجواسيس إلى أهدافهم من خلال الرسائل المشفرة، تارة بالحبر السري، وتارة بالرموز المكتوبة طبقاً لصيغة معينة يتم وضع شفراتها من قبل المتخصصين بين القوات العسكرية والاستخباراتية. وتكررت أعمال التجسس إبان الحرب الباردة مئات المرات بين المعسكرين الغربي والشرقي بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، على التوالي. وقد أدّت الرسائل المشفرة في بداية استخدامها المهام المطلوبة على أكمل وجه، رغم بساطة التقنيات في تلك الأيام. ولكن مع تطوّر الخبرات وتراكمها، استطاعت الدول حماية أمنها من هذه الأعمال بسبب محدودية الأدوات المتوفرة لتشفير وإخفاء محتوى الرسائل، وحصول الدول على الأدوات المناسبة للحد منها.ولكن بمرور الوقت وتطور التقنيات وظهور الثورة المعلوماتية، استطاعت التقنيات الرقمية إحداث تغيير جذري لعمليات التشفير، وتم استبدال الوسائل التقليدية بأدوات غير نمطية للترميز الرقمي، وهي معادلات رياضيات بالغة التعقيد، تزداد قوتها يوماً بعد يوم مع تطور الأجهزة الرقمية. ويتم من خلال الترميز الرقمي تشفير محتوى الملفات المتبادلة عبر شبكات الكمبيوتر، بغض النظر عن نوعية هذه الملفات، فهي تقنياً متساوية المحتوى سواء كانت رسالة نصية أو تسجيل صوتي أو صورة ثابتة أو تسجيل فيديو، فهي من الناحية الرقمية لا تعدو عن كونها ملفاً ذا محتوى رقمي.والمهم معرفته في هذا الجانب هو أن تقنيات الترميز الرقمي ليست منتجاً محدداً تمتلكه جهة معينة حتى يتم الاستعانة بها لفك ترميز معين عند الحاجة إليه، مثلاً بعد وقوع عملية إرهابية في مكان ما. بل هي تقنيات مفتوحة المصدر «Open Source» متوفرة على شبكة الإنترنت ويمكن لأي فرد أو جماعة في الوقت الحالي تطوير اتصال مشفر بين عدة أفراد باستخدام ترميز رقمي مطور ذاتياً، ثم استخدام شبكة الإنترنت للتواصل فيما بينهم، دون الحاجة لاستخدام البريد الإلكتروني أو وسائل التواصل الاجتماعي المشهورة كـ«الفيسبوك» أو «تويتر» أو «واتس أب» أو «تيليغرام»، أو غيرها من البرامج المنتشرة حالياً. وبذلك تكون متابعة مثل تلك الاتصالات ومحتواها صعبة جداً، إن لم تكن مستحيلة.حماية المجتمعات.. رقمياًفي رأيي بأن من أهم المعوقات التي تواجه المجتمعات حالياً لمواجهة الجماعات الإرهابية المتنامية تكمن في عدم قدرة المؤسسات المجتمعية التحول إلى المفهوم الرقمي للتعامل مع العالم الجديد. وهو ما يتطلب بشكل أساس تبني وسائل غير تقليدية -أي عدم الاعتماد فقط على الخبرات التراكمية التاريخية- لتطوير استراتيجيات جديدة للمحافظة على أمن المجتمع، تأخذ بعين الاعتبار التطور الكبير الذي حدث للعالم خلال العقدين الماضيين.فمراقبة المجرمين، على سبيل المثال، لا يمكن تطبيقها عن طريق متابعة حسابات الأفراد على شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي حسبما هو سائد في المفهوم، المراقبة الشخصية للمجرمين والمشتبه بهم، لأن هذا المفهوم مبني على الأسلوب التقليدي لمراقبة الأفراد منذ مئات السنين. فالهوية الرقمية الافتراضية للأفراد تختلف تماماً عن الهوية الحقيقية التي تم بناء فكرة المراقبة المحسوسة عليها. وهناك عدّة أسباب لمحدودية مفهوم المراقبة التقليدية للوصول إلى المجرمين والإرهابيين المفترضين، منها قدرة البرامج الرقمية الحديثة على تغيير الهوية الرقمية خلال جزء من الثانية، مع عدم ربط هذا التغيير بالموقع الجغرافي للشخص المطلوب. أي أن هناك انفصالاً تاماً لعنصرين في المراقبة الرقمية، ولكنهما مرتبطان فيزيائياً في مفهوم المراقبة التقليدية. وبمعنى آخر، لا يمكن مراقبة الأفراد رقمياً لأن كل شخص يمكن أن يتواجد في مئات المواقع -البعيدة جغرافياً- في نفس الوقت، وهو ما يمكن تمثيله على أرض الواقع بوجود مئات التوائم لنفس الشخص في أماكن مختلفة من العالم.وعلى نفس هذا المثال، تنطبق الأساليب التقليدية الأخرى لمعرفة المجرمين والمشتبه بهم، مثل بصمة الإنسان وعينات الحمض النووي وغيرها من الثوابت التقليدية المحسوسة.والمشاهد في وقتنا الحاضر بأن في الدول المتقدمة بلا استثناء، يعمل العلماء والباحثون من مختلف التخصصات التقنية جنباً إلى جنب مع علماء الاجتماع، لدراسة العناصر المجتمعية المكونة للعالم المعاصر، في محاولات مستمرة لإعادة تقديم النظريات والمفاهيم بصورة غير نمطية، قادرة على استيعاب التغيرات التي طرأت على المجتمعات وتحليل الظواهر المكونة للحياة اليومية في ظل سيطرة التقنيات الحديثة على مجريات الأحداث.وهو ما يجرّنا مرة أخرى للتذكير بأهمية مواكبة هذا الفضاء الجديد بالعلوم والمعرفة الحديثة، والبدء في تطوير مجتمعاتنا بما يتناسب مع التحديات الراهنة، والتهديدات المستقبلية المتنامية، في ظل ازدياد الإرهاب والمعارك التي تهدف للنيل من مكتسبات خليجنا العربي.* المدير التنفيذي لمركز «دراسات»