علي الشرقاويإن أردت أن تشاهد بلداً ما، وتتعرف عليه من الداخل، لن تجده أبداً في ناطحات السحاب، أو في الشوارع الواسعة، أو من خلال النوم في فنادق الخمس نجوم، بقدر ما تستطيع التعرف عليه، من خلال زيارة الأسواق الشعبية والمناطق القديمة التي ماتزال روائحها عالقة بالمكان، وزيارة متاحف التراث الشعبي والذي هو خلاصة الماضي في قلب الحاضر. من هنا ، فإنني قررت في هذه الرحلة أن أخرج من مألوف الزيارات العادية وأذهب للزيارات الطويلة والبعيدة من أجل التعرف على موطن أهلي بالشارقة في الإمارات وأعيش قريباً مما عاشوه في الفترة السابقة وما يعيشونه الآن . لهذا فرحت حينما عرفت أن طارق ابن أختي سوف يأخذني لمثل هذه الاكتشافات الجديدة بالنسبة لي.من هنا، وبالضبط الساعة السابعة صباحاً، خرجنا من أبوظبي، ابن أختي طارق عبدالكريم الحوسني وابن أخيه عبدالله أحمد الحوسني ومحمد ابن طارق وأنا، متوجهين إلى مناطق جديدة لم أزرها من قبل. وفي الطريق، أمام إحدى الأكشاك القريبة من محطة البترول التي زودت بها السيارة، توقفنا للفطار، خاصة وهم يعرفون مدى تعلقي بشاي(الكرك)، بعدها واصلنا السير إلى وجهتنا التي نريد.مدينة كلباء ها نحن في كلباء إحدى مدن إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة. وهي إن كانت تابعة لإمارة الشارقة إلا أنها غير متصلة جغرافياً بها أو بأي من مدن الشارقة الأخرى المطلتين مثلها على ساحل خليج عمان.ومن أشهر المناطق في مدينة كلباء منطقة الخوير وخور كلباء ومنطقة سور كلباء والمحطة وسهيلة والمصلى والعود والقادسية والمفرق والبراحة والبردي وحطين والبطين والبراحة والقلعة.وهنالك ثلاث قرى تتبع لمدينة كلباء وهن طريف والغيل ووادي الحلو.وتقع كلباء في الساحل الشرقي لإمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة - وتحدها إمارة الفجيرة من الشمال ولها حدود مباشرة مع سلطنة عمان.وقد كانت كلباء كما تقول عنها التقارير ، إحدى إمارات الساحل المتصالح التي أصبحت فيما بعــد دولة الإمارات العربية المتحدة وكان يحكمها الشيخ حمد بن ماجد القاسمي ومن بعده الشيخ سعيد بن حمد القاسمي والمتوفى في 1937 وبعدها ابنه الشيخ حمد بن سعيد القاسمي والذي أغتيل في 1951، ثم انضمت في 1952 إلى إمارة الشارقة.وقــد أنشئ بها واحد من أقدم المطارات الموجودة بالخليج العربي، استعمله الإنجليز إبان تواجدهم في المنطقة كقاعدة عسكرية أثناء الحرب العالمية الثانية.يحكمها حالياً القواسم وهم الذين يحكمون كلاً من إماراتي الشارقة ورأس الخيمة .ويبلغ عدد سكان كلباء حالياً حوالي ستة وثلاثين ألف نسمة.وكلباء مدينة ضاربة في عمق التاريخ فهي من بين المدن القديمة في الإمارات إن لم يكن في العالم واليوم تقف هذه المدينة شامخة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ لم تتأثر بالتغيرات السياسية أو المناخية أو الاقتصادية التي حدثت في المنطقة ومع مرور الزمن تحولت من حصن منيع إلى واحة سياحية تزين ساحل الإمارات الشرقي.شيء من التاريخ عرفت مدينة كلباء الحضور البشري منذ أقدم العصور ويتجلى ذلك فيما تم اكتشافه خلال السنوات الأخيرة من مواقع تاريخية عريقة، فبالإضافة إلى المؤشرات العديدة الدالة على أن هذه المنطقة كانت عامرة بالسكان في العصور الغابرة كما يؤكد ذلك العثور على مجموعة خرز صغيرة ذات أشكال مختلفة متنوعة من العقيق الأحمر وجرس معدني صغير ووعاء فخاري صغير ورأس سهم حديدي وأصداف تشير الدراسات إلى وجود مواقع أثرية عديدة على أن أهم الاكتشافات في هذا المجال هي مواقع طريف ومواقع المزارع المسماة الحنينيات، كما عرفت هذه المدينة بموقعها جهة الحدود وتبعاً لذلك أنشئ في هذه الجهة عدة منشآت ذات صبغة دفاعية مثل القلاع والحصون وأشهرها قلعة كلباء الحصن ومتحف كلباء بيت الشيخ سعيد بن حمد القاسمي وحصن الزعاب في خور كلباء وقلعة الغيل الأثرية.كلباء في المدوناتوبالرغم من أن الحفريات الأثرية تفيد أن تاريخ كلباء يعود إلى زمن بعيد وورد اسم كلباء عند ابن بطوطة إذ قال: ومن المدن زكى (يعني مدينة إزكى) لم أدخلها وهي على ما ذكر لي مدينة عظيمة ومنها القريات وشبا (يعني دبا) وكلبا (يعني كلباء ومنطقة الخور) وخور فكان وصحار وكلها ذات أنهار وحدائق وأشجار ونخل وأكثر هذه البلاد في عمالة هرمز.كما يعتبر الخور جنوب كلباء في أقصى البقاع الجنوبية للإمارات على ساحل المحيط الهندي أقدم غابة استوائية في الجزيرة العربية أما الآن فقد تحول هذا الموقع لمحمية طبيعية (محمية القرم) فالتنوع الموجود بها لا يتوافر في أي مكان على مستوى الدولة وتم مؤخراً تسجيل المحمية في قائمة رامسار الدولية وتهدف هذه القائمة بشكل رئيس إلى الحفاظ على الاستخدام الرشيد للأراضي الرطبة التي تحتضن أنواعاً مختلفة من الموائل مثل الأهوار والوديان والمناطق الساحلية والشعاب المرجانية.طيور القاوند الأبيض ويوجد بكلباء أنواع فريدة من الطيور لم يسجل لها وجود بأي بقعة في العالم إذ تعد المحمية موقعاً نادراً لتكاثر طيور القاوند الأبيض.وظهرت منطقة كلباء بإحدى خرائط المستشرقين ويدعى جاستالدي وضعها عام 1548 (القرن السادس عشر الميلادي) وتعد من أقدم الخرائط التي وضعت لمنطقة الخليج وتوجد هذه الخريطة الآن بمدينة فيينا.ومن المصادر التاريخية والجغرافية والحضارية المهمة والتي وضعت في مطلع القرن العشرين كتاب (دليل الخليج) الذي وضعه (لوريمر) الممثل البريطاني في العراق وذكر أن تقاريره عن ساحل عمان المتصالح قد استقاها من الممثل البريطاني بساحل عمان والذي كان مقره الشارقة إذ يستدل من الكتاب على أن موقع مدينة كلباء على ساحل الخليج العربي يرجح احتمال كونها ميناء للسفن ومحطة للتبادل التجاري لأنها تزود السفن بالمواد الغذائية كالتمور والأسماك وتنقل البضائع عبرها براً لارتباطها بخطوط الطرق البرية والموانئ البحرية مثل ميناء خورفكان (حيث القلاع والحصون القديمة التراثية) كذلك موقع مدينة دبا حيث وجود الحصن (القلعة) لحماية سواحلها.ويقول باحث أول بدائرة الثقافة والإعلام بالشارقة د.سعيد الحداد إن كلباء تميزت بوجود بعض القلاع والحصون مثل حصن كلباء وقلعة المربعة وحصن خور كلباء وقلعة الغيل وحصن الطريف وهي معالم تاريخية مازالت شاهدة على حضارة وعمق تاريخ كلباء.ورداً على سؤال فيما يتعلق بسبب تسمية المنطقة بهذا الاسم أشار إلى أن تفسير صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة بهذا الخصوص هو الأرجح إذ أرجع سبب التسمية إلى شجرة شوكية كانت تنبت في المنطقة بكثرة وعندما يمر الإنسان بجوارها تكلب (تنشب أو تلتصق) بملابسه ويصعب تنظيفها ومن هنا جاء الاسم. ومضى يقول: تتميز مدينة كلباء بحضارة عريقة منذ القدم وهي مدينة قديمة جداً وقد سماها بطليموس قبل الميلاد (كالانا).المواطن أحمد عبيد أحمد الكندي (65 عاماً من سكان كلباء) يقول: في الماضي قبل مئات السنين سكن أهالي كلباء عند المربعة (مربعة كلباء) وبعضهم سكن في النخيل وعاشوا على الصيد والنخيل واستخرجوا الماء الحلو باليازرة للزراعة وكلباء مشهورة بآبارها الحلوة ومن أشهر تلك الآبار وادي سام ووادي السور وماؤهما عذب لأنهما في الوديان وكنا نستخدم اليازرة لري النخيل والمزارع.خور كلباء تعتبر محمية القِرم كنزاً طبيعياً لا يقدر بثمن، مساحتها تبلغ 1230 هكتاراً، وبها أشجار يبلغ ارتفاعها ثمانية أمتار.ففي داخل هذه المحمية لا يمكن الإحساس بالوحدة، فصوت اندفاع الماء وحركة الحيوانات وأصوات الطيور من كل صوب.هذا الحراك جعل من المكان عالماً جميلاً مليئاً بالحركة والحيوية ويوجد في المحمية جميع أنواع السرطان، التي تحفر جحوراً لتحمي نفسها من طيور النورس والطيور المائية الأخرى التي تعيش في المحمية. وقد جعلت الطيور والحيوانات الموجودة من خور كلباء محمية طبيعية ذات أهمية خاصة للحيوانات المعرضة لخطر الانقراض.وادي الحلووادي الحلو واحدة من القرى الصغيرة التابعة لإمارة الشارقة وتقع في منطقة الجبال والرمال الواقعة بين مدينة كلباء والمليحه وشوكه، كما تعتبر وادي الحلو من المناطق الأثرية حيث تحوي بعض القلاع القديمة إضافة إلى الصنم وهو معلم أثري مميز، ويمر فيه فلج حفر منذ القدم كان ومازال يستخدم في ري المزارع القريبة منه. ويقطن في وادي الحلو عدد قليل من السكان بلغ عددهم حوالي 1500-2000 نسمة.وسمي الوادي بالحلو لأن مياهه عذبة وكان جريان الوادي يستمر لعدة شهور لكن الآن في الوقت الحاضر ولتغيرات المناخ ولقلة الأمطار جفت مياه الوادي مما جعل السكان يحفرون الآبار لاستخراج المياه الجوفية لاستخدامها في الزراعة. أما في فصل الشتاء فنرى المناخ من الرائع من حيث الاعتدال في درجات الحرارة فهي أبرد نسبياً عن المناطق الساحلية إضافة إلى قلة الرطوبة النسبية، مما يجعل المنطقة جاذبة سياحياً لأهالي المدن في الإجازات الأسبوعية أو الأعياد والإجازات الرسمية حيث يقوم السياح بالتخييم في هذه المناطق الجبلية.أما بالنسبة للأمطار فنرى أنه مع ندرة الأمطار في هذه المنطقة كما هو الحال في جميع أرجاء دولة الإمارات إلا أن معظم الأمطار تكون شتوية ناتجة عن الرياح الشمالية والشمالية الغربية وتسقط الأمطار في المناطق الجبلية أكثر عن غيرها من المناطق مما ينتج عنه نمو بعض النباتات والأعشاب وتحول الجبال إلى منطقة خضراء جاذبة للسياحة.ونتيجة للطبيعة الجبلية للمنطقة تعيش العديد من الحيوانات البرية مثل : الثعالب والزواحف كالأفاعي والعقارب والعناكب بأنواعها والصقور والعديد من أنواع الطيور أما بالنسبة للحيوانات التي يربيها أهالي المنطقة فتشمل الماعز، الخراف، الأبقار، والدواجن التي تتغذى على منتجات العلف من المزارع. وتحوي جبال وادي الحلو على العديد من المعادن كالحديد وغيرها من المعادن، ولكن باعتبار أرض وادي الحلو أرضاً بكراً فلا نرى أي استغلال للمعادن في هذه المنطقة.منطقة مليحةتبعد حوالي 20 كم من جنوب مدينة الذيد، وعلى بعد 50 كم شرق مدينة الشارقة، وتعتبر مليحة من المدن المهمة التي تعود بداية تأسيسها إلى القرن الثالث ق.م، وتوسعت وازدهرت خلال الفترة المعروفة بالفترة الهلنستية واستمرت حتى القرن الرابع الميلادي، كما تشير إلى ذلك المكتشفات الأثرية في هذا الموقع.وكشفت التنقيبات التي جرت في مليحة منذ بداية السبعينات من القرن الماضي وجود مدينة مهمة تضم أبنية إدارية وحصوناً كبيرة، ومدافن تذكارية وحارات سكنية ومقابر دفنت فيها الجمال والخيول إلى جانب أصحابها وسكت عملتها المحلية فيها، ويبدو أن المدينة كانت مركزاً مهماً في شبه الجزيرة في التجارة العالمية التي تربط أقطار حوض البحر الأبيض المتوسط مع أقطار المحيط الهندي.وأشارت اللقى الأثرية المكتشفة في مليحة إلى استيراد فخاريات وبضائع أخرى من وادي الرافدين وشمال الجزيرة العربية واليمن والجزر الإغريقية.وفي مليحة تم اكتشاف أبنية مدنية ومقابر شاخصة لا تصل من الناحية المعمارية إلى مستوى المقابر في موقع الفاو في المملكة العربية السعودية أو البتراء في الأردن ولكنها تذكّر بها.وعرف أهل مليحة ضرب العملة على الطريقة الإغريقية والتي تحمل رسم رأس هرقل، واكتشفت بين أغراضهم بعض النصوص الكتابية القصيرة، وهي إما بالآرامية أو بلغة أهل جنوب الجزيرة العربية.وفي مليحة تم العثور على جانب واحد من قالب من الحجر استعمل لضرب العملة يمثل رأس هرقل. ومستوطنات مليحة التي اكتشفت في 1970 عبارة عن مدينة صغيرة تضم قصراً ومقبرة. وتروي تاريخ سكان الشارقة القدماء الذين مارسوا حرفة الصيد في المحيط الهندي، وذلك إلى جانب مستوطنة "تل أبرك” التي يرجع تاريخها إلى 4000 عام وتعد أكبر مستوطنة تم اكتشافها في المنطقة، وهى المنطقة الوحيدة التي استمرت آهلة بالسكان على مدى 2000 عام متواصلة.موقع مليحة الأثري ويقع عند ممر خطم وفي أسفل جبل فايه، فعند قدمي هذا الجبل وفي أرض (مليحة) توجد قبور كثيرة متناثرة وملتقطات أثرية تشبه بقايا فخار وآثار (جمدة نصر) في جنوب العراق. وجون بريرا، باحث في المحمية، يقول: «لحماية الأنواع المتبقية من الأسماك نقوم بإجراء العديد من الدراسات، ففي السنتين الماضيتين لاحظنا تطوراً في أنواع السمك وزاد عدد «الأوزبري»، ووصل عدد طيور «الفلامينجو» المرتبطة بالبيئة المائية إلى 7 طيور، نوفر لها الغذاء والظروف المناسبة لعيشها» .ويؤكد أنه لم يعد اصطياد الأسماك ممكناً بسبب تطبيق إجراءات مشددة لدخول المحمية، ومتابعتها بكاميرات المراقبة، ووجود تنسيق بين المراقبين والشرطة بهذا الخصوص، ولديهم تصاريح خاصة بالمخالفات المترتبة على قطف النباتات وثمار الأشجار أو اصطياد أي حيوان بقيمة 10 آلاف درهم، وأنهم ضبطوا 13 شخصاً تسللوا إلى الداخل بهدف الصيد، وتم تسلميهم إلى الشرطة وطبقت عليهم العقوبات، وهذه الإجراءات المتشددة ساعدتهم على حماية المنطقة، كما إنها تنبه المخالفين لحجم الجريمة التي يقدمون عليها.كلباء طفرة سياحية سيكون المشروع السياحي الكبير الذي ستشهده كلباء طفرة كبيرة في عالم السياحة البيئية على مستوى المنطقة ويشهد القطاع السياحي لمدينة كلباء تطوراً ملحوظاً في ظل الجهود التي تقوم بها «شروق» وهيئة البيئة والمحميات الطبيعية وتعتبر السياحة البيئية في العالم من أكثر عناصر الجذب حيث إن السائح القادم من مختلف دول العالم، من أوروبا أو أمريكا أو حتى آسيا لا يستهدف الفنادق أو الألعاب أو المجمعات التجارية فقط، بل هناك عناصر تجذبه للمنطقة الشرقية لإمارة الشارقة، خاصة مدينة كلباء الغناء.وبدأ تنظيم عدد من البرامج البيئية ضمن نطاق المحمية والدراسات والبرامج والبحوث العلمية وأظهرت حقائق مهمة تفيد عن مخزون المنطقة الكبير من التنوع الحيوي، وحددت تلك الحقائق موقعها ضمن منظومة المحميات الطبيعية العالمية، ويجري إعداد دراسة خطة متكاملة للارتقاء بالبناء المؤسسي للمحميات ضمن المشروع لتأهيلها لتكون موقعاً استراتيجياً للبحوث والدراسات العلمية وأنشطة التوعية والتعليم البيئي، والأنشطة السياحية المرتكزة على ثوابت معايير السياحة البيئية وفق المعايير الحديثة لاستراتيجية السياحة العالمية.قرية الخطم وتسمى شعبية الخطم وتقع بمنطقة مليحة التابعة لإمارة الشارقة وهي عامرة بالنخيل، وأغلب بيوت الأهالي تقع بالقرب من مدفن مليحة الأثري ونتيجة لزيادة عدد رواد تلك المنطقة من السياح، خصوصاً في فصلي الشتاء والربيع.وفي الختام فإن هناك المزيد من المناطق التي تستحق الزيارة، ومنها ما زرناه بالفعل، وربما ترونها في كتابات قادمة.
زيارة خارج المألوف.. من أبوظبي إلى فضاء «كلباء»
25 ديسمبر 2015