محمد الجباليخارج الكوخ الصغير تتلاطم كتائب السحب المثقلة وتنتهي فرقعات رعدية مرعبة وشآبيب متلاحقة من الأمطار، وتحني الرياح هامات الشجر، ويصطرع النور والظلمة فلا تظهر من اصطراعهما إلا سيوف البرق تجبُّ عباءة الليل جباً سرعان ما يرتق بسواد أشد..داخل الكوخ ينبعث نور خافت من سراج نفطي معلق بأحد الجدران قسم عطاءه الضنين بين نور شاحب ونار ذليلة ودخان كثير يصاعد في ألسنة عابثة ترسم على السقف والحيطان والوجوه لوحات سحماء لا تخطئها العيون.قرب الباب المجوّف الشبيه بمدخل المغارة ينتصب الموقد مزهواً بما فيه، تتراقص فيه ألسنة النار القصيرة وتلعق جوانب الجمر المتوهج كقطع الحديد المصهور.. يتسامر الموقد مع «البراد» فيحدثه بطقطقات خافتة متقطعة من جمرة تتلاشى أو عود يوشك أن يحول رماداً، ويرد عليه «البراد» - وبجوفه غليان باطن يسمع ولا يرى - بوشوشة متصلة وأزيز متقطع خفيف كأنه الشكوى.ينتشر من الموقد دفء حميم يجعل له في قلوب المصطلين منزلة سنية وفي أكفهم حرارة تسري منها إلى الجسوم الهزيلة. يأنس الهر النمري إلى الدفء فيأوي إلى عرى الموقد باركاً كالقعود ممعناً في الاستدفاء حتى يشيط جلده وينتبه إليه السمار فيزبرونه أو يدفعونه، لكنه يغافلهم ويعود.على الحصير المجدول من حلفاء الجبل يتناثر الصبية قرب الموقد ينتف بعضهم ما تيسر له من الخيوط والعيدان الصغيرة ويضعها على الجمر مستمتعاً باضمحلالها السريع وبمرأى خيط الدخان المنبعث منها، أو يدفع بطرفٍ من ذيل الهر إلى النار فتنبعث منه رائحة احتراق خفيف، يسحب الهر ذيله مرسلاً إلى الجاني نظرات محملة بالعتاب تعقبها حركات إغماض وفتح متتالية من عينين لوزيتين توحيان بالصفح عن الاعتداءات المتكررة ثم يعود إلى الجثوّ قرب النار ناسياً ما قد مضى، فإذا أصاب هدنة وأمناً أطلق مغمض العينين خرخرة متقطعة تنضم إلى بقية الأصوات.. وفي أقصى الغرفة ينزوي الجد طريحاً على جلد خروف وبيده مسبحة وعيناه الصغيرتان ناشبتان في السقف بلا حراك. هنا تتلوى أوراق الخوص بين يدي الأب حبالاً وضفائرَ، وهناك تتردد المزادة المعلقة بحبل من ليف في السقف بين يدي الأم ينبعث منها صوت اللبن المخيض متعاوداً مألوفاً وينساب إلى الآذان موجات من الشقشقة والقرع والتوقيع تجبل بالدفء فتحدث في النفوس والجسوم خدراً يغري العيون بالكرى.. يتقدم الليل الهوينى تتجاوب فيه أصوات اللبن المخيض وعزيفُ الريح في الكوى وخرخرة القط الملحاح وحفيف الحلفاء وسمفونية الموقد والبراد، بينما تركض الغيوم في مناكب السماء خيولاً أسطورية ينهمر عرقها غزيراً على الوهاد والجبال والأودية..تغيرت أشياء وغابت أشياء وسقطت من الذاكرة أشياء.. وبقي في النفس إحساس وحيد بأن الحب كان أكبر والليل أجمل والمطر أحب..«جادك الغيث إذا الغيث همى..»
ليلة من شتاء بعيد..
26 ديسمبر 2015