إسماعيل الحجيليس غريباً أن تشيع أغنية «البرتقالة» العراقية ويذيع صيتها، وأن تخلف مع مئات الأغاني الهابطة الرخيصة، روائع ناظم الغزالي وكاظم الساهر، ولا عجب فنحن في زمن الكوليرا، و«مملكة الذباب» شيدت أركانها على أنقاض «بابل» و«آشور».شيوع الفن الهابط ليس استثناء عراقياً، إذ سبقتها لبنان بتقديم فن «الإغراء الجسدي» لكوكبة من الهاويات، وفي مصر قدمت مروة قراءة مختلفة للطرب «فن الحمامات».قبل السقوط «المخزي» للطرب العراقي في عصر الكوليرا، اختط هذا الفن لنفسه مسرباً مغايراً، مغرقاً في المحلية، ومن أوجاعه اختار المفردة واللحن المتفرد الحزين، مع بزوغ نجم المطرب الكبير ناظم الغزالي ورائعته الخالدة التي شنفت الآذان لسماعها طيلة عقود.استطاع الغزالي بحنجرته الذهبية، إشاعة الفن العراقي الأصيل والنغم الشجي بالأوساط العربية، متغلباً على عوائق اللهجة وتباين الأذواق الفنية، ليضع الطرب العراقي في مكانه المستحق بين مدارس الغناء العربي، وكان هذا زمن الفن الجميل والأصيل، حيث لم يكن لصاحب «البرتقالة» وأمثاله مكاناً.وتصدر الغزالي -قبل سنوات طويلة من تأسيس مملكة الذباب- إلى جانب سميرة توفيق وعبدالمطلب وكارم محمود في أواسط القرن العشرين، برامج المنوعات في الإذاعات العربية، وتغنى رواد المقاهي على امتداد الوطن العربي الكبير بمواويله الخالدة، أمثال «عيرتني بالشيب» و«يا أم العيون السود» و«فوق النخل»، وغيرها الكثير من الروائع.لاحقاً أخذت الأغنية العراقية تطغى وتشيع، وتشكل ملامح مدرسة فنية متكاملة، مع بروز مطربين كبار أمثال ياس خضر وسعدون جابر ورياض أحمد وآخرون، غنوا ذات اللون وبذات اللهجة المحببة، وقدموا للعالم العربي فناً عراقياً خالصاً، ليجد هذا الفن نفسه منافساً للمدرستين العريقتين اللبنانية والمصرية، رغم وجود سيدة الغناء العربي فيروز، وعمالقة مصر أمثال أم كلثوم وعبدالحليم وعبدالوهاب.وأعاد بروز نجم الفنان العراقي كاظم الساهر في تسعينات القرن الماضي، إلى الأذهان عصر الغزالي الذهبي وسماه البعض خليفته وأطلقوا عليه لقب «القيصر»، ومع غناء الشاب اللامع لقصائد الشاعر الكبير نزار قباني، أخذ الطرب العراقي يشيع وينتشر، ويأخذ حظاً وافراً من الاهتمام العربي، مستفيداً من تدهور الطرب المصري واللبناني.في بداية الألف الجديدة اختلف الحال، وتراجع الفن العراقي في عصر الكوليرا، فالفن ينشأ ويتطور وينمو في ظل منظومة حضارية متكاملة أخلاقية وقيمية، ومع انهيار هذه المنظومة وتشظيها، بدأت تشيع أغاني «البرتقالة» و«الباذنجانة»، وأخذ الذباب يدوي في أرجاء بقايا الحضارة الموبوءة بالكوليرا.ولعل موال حسام الرسام وهو يرثي العراق يلخص الواقع برمته..«عونك يا وطن يابو الحضاراتأحضنك لو صرت كلك سجاجينأريد أحجي.. ومن يصدق هالخرافاتألك حب السوالف ع السلاطينيابو الخير.. ليش تفيض خيرات على الجيران وعيالك مساكينحيطانك صفت بس للشعاراتهواي أحزب وشوية حياطين».