تعيش ليبيا اليوم حالة غير مسبوقة من الانفلات الأمني رافقتها حالة اصطلح عليها من قبل بعض المراقبين بـ"انفلات الحريات"، وانفتاح بلا حدود لتداول الكتب بعد أربعة عقود من الكبت والمنع، أضحت معها حيازة كتب فكرية أو تاريخية جريمة لا يغفرها نظام العقيد وترمي بصاحبها في السجون شأنه شأن كل من يشعر الحاكم بأنه يمثل خطرا عليه.كان الكتاب زمن القذافي محاصرا، وحامله ملاحقا، وسجينا لا لشيء سوى أنه حمل كتابا وأراد أن يستفيد من فكرة لعلها تساهم في بناء البلد.عندما تقوم بجولة في مكتبات طرابلس أو بنغازي أو أي مدينة ليبية أخرى، تجدها عامرة بالفكر والعلوم، يرتادها عشاق الكتاب بحرية وعلى الرفوف تطالعك عناوين كانت بالأمس القريب ممنوعة ولا يمكن أن تهمس بها شفاه أحد في العلن.صاحب مكتبة النهضة ببنغازي طارق بوهديمة أكد لنا أن الوضع أصبح أفضل بكثير عقب رحيل القذافي، حيث انفتح باب الحريّة بلا حدود وأصبحت حركة الكتب أكثر سهولة ومرونة.ولم يخف بوهديمة خشيته من أن تنقلب الأوضاع في المستقبل بالوقوع تحت طائلة قوانين متشددة تقمع حرية الفكر وتضيّق الخناق على الكتاب.تضاعف جمهور الكتابوبشأن عدد المقبلين على اقتناء الكتاب قال بوهديمة: إن عدد المقبلين على شراء الكتب ازداد للضعفين، بسبب إدراك الناس لأهمية القراءة والاطلاع على ما ينتجه الكتّاب على اختلاف اختصاصاتهم ومشاربهم من أفكار ورؤى تتناول قضايا شتى تهم حياة الناس، فالتعطش للمعرفة جعل عدد المقبلين على شراء الكتب يزداد بشكل لافت، لأن الأمم تبنى بالقراءة والتعلم وإنتاج الأفكار.ربما يكون أيسر أن نبحث في الكتب التي لم تكن ممنوعة زمن القذافي من أن نعدد الكتب الممنوعة، ويقول بوهديمة إن هذه الكتب التي لم يكن مسموحا بتداولها، ووجودها في بيتك كفيل بزجك في السجن، مثل كتب اليساريين من المغرب والشام، وبعض علماء الدين السعوديين، أما كتب تاريخ ليبيا فهي ممنوعة بشكل مطلق تقريبا.ازدهار كتب الفكر والسياسةوكشف صاحب مكتبة النهضة عن الكتب التي ازدهرت مبيعاتها عقب الإطاحة بنظام العقيد القذافي، فهي الكتب السياسية والفكرية، ومنها الدراسات التي تتعلق بالتراث والقراءات الإسلامية المعاصرة، إضافة إلى الكتب الصفراء التي تتناول الفضائح السياسية والجرائم التي شهدها عصر القذافي، مثل: طرائد القذافي، وأشخاص حول القذافي، اللذين شهدا إقبالا واسعا في فترة ما بعد إعلان التحرير.وأوضح بوهديمة أن الكتب التي تناولت تاريخ ليبيا كانت ممنوعة ومحاصرة وشهدت هي أيضا إقبالا منقطع النظير عقب إعلان التحرير، وهو ما يعكس تعطشا واضحا لدراسة تاريخ البلاد. ومن هذه الكتب التي عرفت رواجا: تاريخ ليبيا، السنوسية دين ودولة، نشأة دولة ليبيا الحديثة، وكتاب الدكتور محمد المقريف (الرئيس السابق للمؤتمر الوطني العام) ليبيا بين الماضي والحاضر.نجاح ومخاوفبعد أكثر من عامين على إعلان التحرير وإسقاط القذافي يواصل الكتاب انتشاره بنجاح. لكن بوهديمة لم يخف خوفه من إمكانية تراجع مكانة الكتاب لأنه يرى أنه ثمة علاقة جدلية بين الإقبال على القراءة والفكر وبناء الدولة، ومتى يشعر الإنسان بالإحباط وعدم التقدم في تحقيق طموحاته وآماله بشأن بلاده يبتعد شيئا فشيئا عن الكتاب، مؤكداً على أنه من الضروري أن تصبح علاقتنا بالكتاب مثل علاقتنا بالخبز والهواء.أصحاب المكتبات كانوا يأتون بالكتب الممنوعة -خاصة في فترة معارض الكتاب الكبرى- صنفان: صنف يؤمن بأنه لابد من العمل على تنمية معارف الناس وتثقيفهم، ومنهم من يخاطر بجلب الكتب الممنوعة بهدف الربح لأن أسعارها تكون مرتفعة.سألنا عن محبي الكتب الممنوعة زمن القذافي، هل ما زالوا على وفائهم للكتاب والمكتبات، فجاءت الإجابة سريعة، هم أوفياء كعادتهم، يبحثون عن الكتاب الجيّد، فهؤلاء أثبتوا صحة رؤيتهم للأشياء عندما كانوا يغامرون بالبحث عن الكتب التي تأخذهم إلى السجون.وعلق بوهديمة على سلوك أغلب الناس اليوم الذين يضعون التحف الثمينة وأواني الكريستال في قاعات الجلوس، متناسين الكتاب الذي تراجع حضوره أمام مظاهر الحياة المدنية الجديدة.القذافي يخشى الكتابأشار الكاتب محمد الورفلي إلى أن نظام القذافي كان يرى في الكتاب العدو الأول لأنه يخشى أن يتجه إليه الشباب فيرتقي بوعيه. لذلك كان يعتبر أي شاب يمتلك كتبا أو له رغبة في حيازة الكتب جسما شاذا في المجتمع.كما أنهم لم يكتفوا بمحاصرة الكتب الممنوعة، بل كانوا يراقبون الشباب الذين يقتنون الكتب المعروضة في المكتبات داخل ليبيا.محمد الورفلي هو أحد الذين دخلوا السجن لأكثر من أربع سنوات بسبب ثلاث تهمم منها تهمة حيازة كتب ممنوعة.وهو يذكر اليوم لحظة مداهمة قوات الأمن منزله بناء على وشاية، ورغم أن مكتبته التي كانت وقتها تضمّ أكثر من 450 كتابا أغلبها في علوم اللغة وبعض الكتب الدينية الأصولية، إلا أنه سجن بسببها.ويذكر الورفلي أنهم صادروا كتاب "ظلال القرآن" لسيد قطب ومنهجية المنطق لمحمد الراشد.وأكد لنا الورفلي أنه التقى في سجنه الكثير ممن سجنوا بسبب حيازة كتب صنفها النظام وقتها على أنها ممنوعة.ورغم سعادته بحالة الانفتاح التي تعد من أهم ثمار ثورة السابع عشر من فبراير، يظهر الورفلي بعض القلق حيال الوضع الراهن الذي تغيب فيه الرقابة القانونية التي تحمي ذائقة الناس من دخول الشعوذة والأفكار الهدامة، حسب تعبيره.مسالك الكتب زمن المنعخلال جولتنا في مكتبة النهضة التقينا الإعلامي الشاب عبدالرحمن عامر الذي كشف عن شغف بالكتاب غير محدود، وأكد عبدالرحمن خلال دردشة خفيفة معه أن القرّاء كانوا يتحصلون على الكتب الجيدة في عهد القذافي من خارج البلاد لا سيما في الثمانينيات، حيث كانت قبضة النظام شديدة. ولم تكن الكتب الجيدة تأتي بكميات كبيرة بل هي نسخ بسيطة من حيث العدد تهرّب عبر الحدود من دولة مصر والسعودية على الأكثر، ويقوم الشباب بتدوير الكتب فيما بينهم خشية من بطش النظام.ويضيف عبدالرحمن: بعد سقوط النظام حدث انفتاح في مجال الكتاب لم يسبقه مثيل بل وصل الحال إلى توفر كتب تدعو إلى بعض المذاهب غير الرائجة في البلاد بل المستهجنة أحيانا كالكتب الداعية إلى التشيّع.وأقيم العديد من المعارض الجيدة والطموحة، التي جاءت في أكثرها بجهد ذاتي بعيدا عن الدولة، إذ إن الأخيرة لم تولِ الكتاب اهتماما كافيا إلى الآن.
Variety
المكتبات والكتاب قبل ثورة فبراير.. حرية الفكر في ليبيا
11 نوفمبر 2013