ويندي شيرمان*تشكل مسألة التعافي من آثار الحروب والتجاوزات الإنسانية والأخلاقية بها مسألة هامة للغاية في سبيل بناء مجتمعات أفضل، خاصة وأن ذلك يتطلب سنوات عديدة من أجل تجاوز المظالم والانتكاسات التي تمت، وهو ما يؤثر بشكل مباشر على فرص تحقيق الأمن والتنمية في ظل استمرار العداوات التاريخية، وانتعاش الذاكرة بأحداث تعوق أي فرص لتحقيق تسويات سلمية.ولتجاوز تلك المعضلة تطرح فكرة «الغفران السياسي» كآلية للقفز فوق تلك المظالم التاريخية بشكل يحقق المصالح الاستراتيجية للدول المتعادية، خاصة وأن هناك نماذج تاريخية ناجحة في هذا الإطار يمكن تعميمها، وكذلك هناك نماذج لم تستطع التصالح مع الماضي وتجاوز الخلافات، بما يجعل الماضي يؤثر على الحاضر والمستقبل بشكل سلبي.وفي هذا الإطار، تأتي دراسة السفيرة الأمريكية «ويندي شيرمان» - كبير الباحثين بمركز بليفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفارد - المعنونة «الغفران السياسي: بعض التأملات الأولية» والتي نشرها المركز في يونيو من العام الجاري. وتسعى الدراسة إلى تفنيد فكرة «الغفران السياسي» بعد الحروب أو التجاوزات التي تُرتكب من قِبل دولة ضد دولة، أو بين جماعات داخل دولة واحدة. وتحاول الباحثة استكشاف ذلك من خلال عرض موجز للوضع الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك لموقف اليابان من تجاوزاتها ضد كوريا الجنوبية، وصولاً إلى الإبادة الجماعية في رواندا في تسعينيات القرن الماضي. وتُشير الدراسة إلى أن تعزيز مسألة الغفران السياسي يتطلب المزيد من الجهد الدولي بشكل يسهم في خلق مستقبل أفضل يتسم بالازدهار، وينتشر فيه السلام في شتى أنحاء العالم.الغفران السياسي كآلية للسلم الدولي:تُشير الباحثة إلى أن انتشار الأفكار العدائية الممتدة منذ زمن بعيد بين طوائف وقبائل وأديان ومجتمعات ودول مختلفة، وكذلك عدم القدرة على التغلب على المظالم القديمة عميقة الجذور «مثل: الخلافات القبلية في السودان، والعداء بين السعودية وإيران، واستمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي» - يثير التساؤل حول إمكانية نجاح مسألة «الغفران السياسي»، خاصةً في ظل تغليب العداء العميق على المصالح الهامة.وتبرز الدراسة ماهية الغفران السياسي بكونه مرتبطًا بقدرة الدول أو الجماعات على التوفيق بين مواقفها التاريخية، ووضع العداوات القديمة جانبًا، والتركيز على ديناميات التعاون بما يخلق منفعة متبادلة للطرفين. وتؤكد على أنه لا بد من تفكيك تلك الفكرة من مضامينها شديدة العمومية، أو المرتبطة بفكرة الجماعة أو الدولة، والانتقال من العام إلى ما هو خاص، وذلك بالحديث عن الأشخاص. بعبارة أخرى، تناول فكرة الغفران الشخصي باعتبار أن الدول بالأساس مكونة من أفراد لابد أن تكون لديهم قابلية لفكرة التسامح أو الغفران السياسي. وترى الباحثة أن ذلك لن يتأتى إلا بوجود حلول عادلة تجعل الجناة تتم مساءلتهم، بالإضافة إلى وجود اعتذار حقيقي عن أي إساءات قد تمت في الماضي. وتعتبر ألمانيا في هذا الصدد نموذجاً واقعياً لمسألة الغفران السياسي، وذلك في ظل المصالحة معها بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك ما حدث بين اليابان وكوريا الجنوبية، وصولاً إلى وجود تجاوزات مجتمعية داخل الدولة الواحدة، مثلما حدث في رواندا في تسعينيات القرن الماضي، وهو ما سيتم تناوله تفصيلاً فيما هو قادم.ألمانيا.. نموذج واقعي للغفران السياسيتشير الدراسة إلى أن ألمانيا يمكن اعتبارها «قصة نجاح» نموذجية فيما يتعلق بالغفران السياسي، خاصة وأنها كان لديها سجل حافل من الجرائم ضد الإنسانية خلال القرن الماضي، ولكنها وبسرعة غير متوقعة خرجت لتعتذر عن أخطائها. بالإضافة إلى الموافقة على دفع تعويضات ضخمة باعتبار ذلك واجباً أخلاقياً في الأساس. فبعد الحرب العالمية الثانية استجابت للمطالب اليهودية بالتعويضات للضحايا الذين سقطوا أثناء المرحلة النازية في عهد هتلر.وكان هذا التوجه بمثابة حجر الزاوية في تشكيل جمهورية ألمانيا الاتحادية في خمسينيات القرن الماضي على يد المستشار «كونراد أديناور» ومجموعة من السياسيين الألمان البارزين الذين اعتبروا ذلك الموقف واجباً أخلاقياً. وإلى جانب ذلك فإن هذا التوجه الألماني ارتبط أيضا بجملة من المصالح الاستراتيجية، بدءاً من إنعاش الاقتصاد المتدهور، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من بلد دمر بالكامل. وبالتالي فإن المصالحة اعتبرت إجراءً هاماً من أجل عودة ألمانيا من جديد إلى المجتمع الدولي، وتغيير صورتها الذهنية. ولذا فإن ألمانيا تعتبر الأكثر استثنائية في تاريخ الغفران السياسي، خاصة وأنها باتت -وفق استطلاعات الرأي العالمية الأخيرة- واحدة من المساهمين الرئيسيين في تحقيق السلام والاستقرار الدولي.وفي هذا الإطار، كان هناك قبول أوروبي بشروط كبيرة للاعتذار الألماني، وخاصة من فرنسا التي عانت من إذلال الاحتلال الألماني لها أثناء الحرب العالمية؛ حيث سعت ألمانيا إلى تهدئة مخاوف فرنسا، وبحلول عام 1960 كان المواطنون الفرنسيون - بأغلبية ساحقة - يشعرون بمشاعر إيجابية تجاه ألمانيا والألمانيين، وقد تجسد ذلك في عام 1984 عندما قام المستشار الألماني هلموت كول والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بالوقوف يداً بيد أمام مقبرة تحوي رفات «130» ألف جندي ألماني وفرنسي في الحرب العالمية الأولى.اليابان ورواندا.. نموذجان مختلفان كلياًتشير الدراسة إلى أن اليابان تعتبر مثالاً مختلفاً عن ألمانيا؛ حيث كانت العلاقات التاريخية بين اليابان وكوريا الجنوبية سيئة للغاية لاحتلال اليابان كوريا فترة طويلة امتدت من عام 1910 حتى عام 1945، لكن اليابان خلال العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية قامت بتقديم اعتذار مدعوم شعبياً للانتهاكات التي تمت في زمن الحرب، حتى أنه مؤخراً توصل الطرفان إلى اتفاق ينهي النزاع الطويل بشأن قضية «نساء المتعة» والتي تتعلق باتهام الجيش الياباني باستعباد جنسي للنساء الكوريات خلال الحرب العالمية الثانية. وبالتالي فإن الدولتين قامتا بتوحيد مواقفهما، وتجاوز العداوات التاريخية، وتحقيق التوافق الاستراتيجي ضد الاستفزازات الكورية الشمالية مؤخراً، وكذلك مخاوفهما المشتركة بشأن عودة الصين، حيث وجدت الدولتان في تحدي كوريا الشمالية المتصاعد للقانون الدولي وللمجتمع الدولي والتهديدات النووية المعلنة وزيادة القوة والهيمنة الصينية، ضرورة لإقامة شراكة استراتيجية بينهما قائمة على تجاز الماضي بكل مآسيه.وفي السياق ذاته، تشير الباحثة إلى أن هناك جرائم كبرى لم يتم تقديم اعتذار حقيقي عنها، ومنها الإبادة الجماعية التي حدثت في رواندا في منتصف تسعينيات القرن الماضي، حيث تم ذبح حوالي «800» ألف من التوتسي والهوتو خلال مائة يوم فقط، علاوة على اغتصاب أكثر من مائتي ألف من الإناث، وهي كارثة إنسانية كبرى لم يقم المجتمع الدولي آنذاك بالجهد الكافي من أجل منع حدوثها.وختاماً.. تشير الكاتبة إلى أن مفهوم المصلحة يعتبر محورياً فيما يتعلق بإمكانية نجاح مسألة الغفران السياسي عن العداوات التقليدية والتاريخية بين الدول من عدمها. فعلى الرغم من وجود خلافات كبيرة بين دول مثل الولايات المتحدة وفيتنام فإن هناك إرادة حقيقية نحو تعزيز المصالح الاستراتيجية بينهما. وكذلك فإن هناك إرادة لتعزيز التعاون التجاري بين اليابان والصين برغم الخلافات السياسية التاريخية والقائمة. ورغم السلام البارد بين باكستان والهند اللتين خاضتا ثلاثة حروب، فإن الجارتين النوويتين بدأتا تعزيز التعاون التجاري بينهما.كل تلك الأمثلة تطرح ضرورات البحث عن تعزيز آليات مستحدثة وفاعلة من أجل دفع الدول المتصارعة والمتنازعة لاتخاذ خطوة صحيحة وناجزة نحو تحقيق الغفران السياسي، والتغاضي عن أي معوقات لتعزيز التعاون الاستراتيجي. وفي هذا الإطار تؤكد الباحثة أن الولايات المتحدة يمكن لها أن تلعب الدور الأبرز في ذلك، خاصة في ظل ما تملكه من أدوات ومقومات، وقدرتها على الضغط سياسياً على الدول من أجل تحقيق مواءمة أو مصالحة. وترى أن على الباحثين وصناع القرار في العالم النظر إلى الكيفية التي يمكن من خلالها أن نجعل الغفران السياسي مبدأ يمكن من خلاله تنظيم الشؤون الدولية، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين.المصدر: المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية*كبير الباحثين بمركز بليفر للعلوم والشؤون الدولية التابع لجامعة هارفارد