إن بناء الدولة الديمقراطية ونجاحها واستمرارها (على الصعيد النظري على الأقل) لا يمكن أن يتحقق من خلال القوى الاجتماعية المحافظة لأنها بطبيعة تركيبتها ومصالحها الطبقية والمادية وبنائها الثقافي لا يمكن أن تتقبل أو تتعايش مع البناء الديمقراطي الذي يقوم على التداول والرقابة والمساءلة والحرية الفردية والجماعية، فهذه قيم ومفاهيم تتعارض مع مصلحة تلك القوى ومصالحها الراسخة والقائمة في جانب منها على الهيمنة الدينية والثقافية والاقتصادية على الجماهير الشعبية، ولكن هل الأمر في الواقع هو على هذا النحو؟ ألم نشاهد مئات بل آلافاً من أبناء الطبقة الوسطى (من أطباء ومهندسين ومحامين وإعلاميين وأساتذة جامعات) ممن أعدتهم الدولة وأنفقت على تكوينهم الملايين، وبسطت أمامهم سبل العيش الكريم، وقد انقلبوا في لحظة على التجربة الإصلاحية وعلى ما بات يسمى بمدنية الدولة، وانحازوا إلى البنية الطائفية التقليدية المحافظة (المعادية للديمقراطية) وكانوا أول من ينقلب على التمشي الديمقراطي وأول السائرين في ركب منظمة الأحزاب.ولا شك أن كل قضية من هذه القضايا هي (قضية) قائمة بذاتها يجب أن تفكك وأن تفرز عناصرها التكوينية من أجل التماس الاستجابة الملائمة. كما إن عملية التفكيك والفرز تقتضي التفريق بين (الأسلوب الأكاديمي) وبين (الأسلوب المعرفي التطبيقي) وتقديم الثاني على الأول في التعامل مع هذه القضايا في التطبيق لما لذلك من ملابسات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية وأخلاقية، فهنالك مثلاً إجماع اليوم بين المفكرين على أنه وفي أي بلد ديمقراطي أو يتجه نحو ترسيخ نموذج لديمقراطية حقيقية راسخة، فإن ذلك البناء الديمقراطي يعتمد بالأساس على الطبقة الوسطى بالدرجة الأولى، لأن هذه الطبقة هي المستفيدة من الديمقراطية أكثر من الطبقات الأخرى، إلا أن الإشكالية عندنا أن هذه الطبقة تآكلت بشكل كبير وتزعزعت مكانتها لأسباب متعددة، ولذلك، ومن أجل إعادة الحياة لهذه الطبقة لتلعب دورها الإيجابي في بناء النظام الديمقراطي، يجب العمل الجاد والمكثف لإنعاش الاقتصاد وتحقيق المزيد من التنمية نشر التعليم والثقافة وحرية الوصول إلى المعرفة ونشر الحرية بين الناس وتعزيزها، وبناء المشاريع الصناعية والخدمية والزراعية وخلق المزيد من مواطن العمل أمام المواطنين، بما يساعد على تثبيت المناخ الملائم لنشر الديمقراطية وتعزيز ثقافتها بين الناس.وهنالك أيضاً إجماع عالمي آخر على أن اختراق التكنولوجيا للمجتمع والاقتصاد، بما يعيد بناء نظام توزيع الدخل الاقتصادي بين الناس، وسوف تظهر تبعاً لذلك ثلاثة مستويات معاشية اقتصادية جديدة بينهم، وإن هذا التبدل سيضع (20%) فقط من الناس في قمة هرم الكسب المالي وسوف تتوزع الـ(80%) الباقية على مستويات الأعمال التقليدية (الموظفون الحكوميون، العسكريون، الفلاحون، العمال) والخدمات، وهناك تخوّف عالمي من أن يتسبب هذا الوضع الجديد في توسيع الشقة بين الأغنياء والفقراء ليزداد الأغنياء غنىً والفقراء فقراً، وهذا ما سوف يزيد الأمور تعقيداً، وقد يفسر بعض الاضطراب في المفاهيم الراسخة حول دور الطبقة الوسطى في بناء وتعزيز الديمقراطية.إلا أنه، ومع كل التعقيد الفكري الذي تطرحه هذه المسألة يمكننا التأكيد على عدد من الملاحظات الرئيسة:أولاً: من الأكيد إلى حد الآن أن المسألة الديمقراطية ما تزال ترتبط بعنصري الحوكمة والمساءلة بقدر ارتباطها بعنصري الحداثة والحرية واحترام الأديان والخصوصيات وتعايش الأفكار على اختلافها، بعكس ما هو سائد في بلاد العرب من نظرة سطحية تركز على الصراع على السلطة ولذلك يتم التركيز فقط على الانتخابات وعلى السيطرة على السلطة والموارد (يلاحظ طبيعة النقاش بين القوى السياسية في العراق والسودان وليبيا حالياً حول تقاسم النفوذ والثروات).ثانياً: إن الديمقراطية لا يمكن أن تنبت أبداً عن مسألة الحداثة التي اقتصرت في أغلب البلاد العربية على (التمدن المادي والمظهري) مع الاحتفاظ بالبني الطائفية والقبلية والدينية مهيمنة على حياة الفرد ومصيره وعلى حياة المجتمع ومصيره إلى درجة أن هذه البنى ما تزال في عدد من البلدان العربية تتخذ الطابع الميليشاوي، فكل فريق يمتلك السلاح والمليشيات المسلحة ويهيمن على مناطق جغرافية باتت معروفة باسمه ومقصور دخولها وسكناه عليه دون غيره، هذا إضافةً إلى الغياب شبه الكلي لمظاهر وحدة الدولة (لكل علمه ولكل مذهبه ولكل أعياده ونشيده وتعليمه ومساجده ومستشفياته وإذاعاته وقنواته الفضائية.. إلخ).ثالثاً: إن الحداثة التي يتحدث عنها الطائفيون هي مرادف للدولة المدنية التي يكثرون من الحديث عنها، والتي تعني في النهاية المظاهر الحديثة (زمنياً) للدولة لا أكثر ولا أقل، بما هي مؤسسات وزارات ومراكز شرطة ومطارات ومدارس وجامعات، وليست فكراً ولا آلية للحكم وليست اتخاذاً وتبنياً لقيم العمل المنتج والشفافية والحوكمة وتكافؤ الفرص.رابعاً: إن القوى الأساسية الحقيقية التي باستطاعتها بناء الدولة الديمقراطية هي القوى الديمقراطية الليبرالية التي تؤمن بالديمقراطية ودولة المواطنة والقانون، وترفض التمييز بين المواطنين على أسس دينية وطائفية وعرقية ومناطقية، أو جنسية، وفي الوقت نفسه تحترم الأديان وحرية العبادة والصحافة والتظاهر والتعبير وحقوق الإنسان وحقوق المرأة، والتأكيد هنا على علمانية القوى السياسية، لأن الأحزاب الدينية (معارضة أو غير معارضة) هي بالضرورة طائفية ولا يمكن أن تتخلى عن تمييزها الطائفي بين المواطنين، لذلك محكوم عليها بإدامة الصراعات وتفاقم المشاكل التي تعيق تحقيق الديمقراطية الحقيقية في النهاية.