بغض النظر عن النتائج النهائية الرسمية للانتخابات الرئاسية، وفي ظل تكرار المفاجآت التي شهدتها الحياة السياسية مؤخراً في أرض الكنانة كحل مجلس الشعب، وإصدار الإعلان الدستوري المكمّل عشية إعلان نتائج انتخابات الرئاسة، فإن الأمور تتجه إلى مواجهة خطيرة يرى فيها البعض إنقاذاً للثورة من نظام قديم يحاول إعادة إنتاج نفسه، ويرى فيها البعض الآخر مدخلاً لنوع من الصراع الأهلي يؤدي بالثورة نفسها ومعها كل طموحات الشعب المصري.ولتجنب مثل هذه المواجهة المرتقبة، وقد رأينا مثلها في غير قطر عربي اصطدمت فيه النتائج الانتخابية بموازين القوى الفعلية، لا بد من مراجعة عميقة تقوم فيها كل الأطراف المصرية الفاعلة والمعنية بمصير مصر كما بمصير الثورة نفسها.النقطة الأولى في هذه المراجعة تكمن في إقرار الجميع أن ثورة 25 يناير هي ثورة أطلقها شباب مصر، واحتضنتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر وأحزاب أخرى، وانتصرت لها القوات المسلحة في مصر، فجاءت تعبيراً عن ائتلاف كل قوى التغيير، الإسلامية والناصرية واليسارية والديمقراطية، كما وحدت الشعب والجيش معاً، وبالتالي فإن تذكّر هذه الحقيقة أمر ضروري كي لا يضيع الجميع في متاهات الصراع على السلطة، وكي لا ينزلق الجميع في مهاوي التسلّط أو التفرد أو الاستئثار.النقطة الثانية في هذه المراجعة تكمن في أن يقوم الجميع بنقد ذاتي لتجربته الخاصة خصوصاً في الفترة الواقعة ما بين سقوط مبارك وإعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، قبل أن يتوجه بسهام نقده للآخرين، فقوى الثورة الشعبية مدعوة لأن تفسّر للناس كيف يتمكن مرشح كان رمزاً للنظام السابق أن يحوز حوالي نصف أصوات الناخبين المصريين، كما إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة مدعو لأن يفسر لنفسه، ولغيره أيضاً، كيف تحوّل أكثر من نصف المصريين إلى مواقع العداء العلني له بعد أن كانوا يهتفون باسمه في الميادين في شعار خالد "شعب وجيش يد واحدة”.النقطة الثالثة في هذه المراجعة تكمن في أن يدرس الجميع، ونقول الجميع، تجارب حصلت حوله، بعضها قام على الإقصاء وعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات فقاد بلاده إلى الدمار والحروب الأهلية، ومنها من قام على الائتلاف فحفظ الثورة وحفظ البلاد أيضاً مما كان يحاك لها من مخططات ومؤامرات.أما النقطة الرابعة فتكمن في أن يتنبه الجميع ، ونقول الجميع، لدور القوى المضادة للثورة، سواء كانت محلية أو إقليمية أو دولية، والتي توزع الأدوار فيما بينها، فيغري بعضها هذا الطرف لجره إلى صدام مع الطرف الآخر، فيما يبتز بعضها ذاك الطرف لمنعه من التفاهم مع الأطراف الأخرى.فالمطروح اليوم هو مصير مصر التي إذا اعتزت اعتز معها العرب كلهم، وإذا اهتزت اهتزت معها الأمة من مشرقها إلى مغربها، وحين يكون مصير مصر في الميزان ينبغي أن نتصور حجم القوى داخل مصر وخارجها، والتي يرعبها أن تستعيد مصر قوتها ودورها وأن تحرر إرادتها من قيود التبعية في الخارج ومن سلاسل الاستبداد والفساد في الداخل.أما النقطة الخامسة في المراجعة المطلوبة فهي أن يدرك الجميع، أن مرحلة التحول الديمقراطي، وهي بالضرورة مرحلة انتقالية، تختلف عن مرحلة النظام الديمقراطي الذي نطمح إلى قيامه جميعاً، داخل مصر وخارجها، فإذا كان النظام الديمقراطي المتجذّر في الواقع يقوم على أغلبية وأقلية تمتلكان مقومات التداول السلمي للسلطة، فإن التحول الديمقراطي يقوم بالضرورة على فكرة التوافق الوطني الواسع حيث ينخرط الجميع في بناء نظام ديمقراطي بكل مؤسساته فلا غلبة ولا إقصاء، لا هيمنة ولا إبعاد.هناك بالتأكيد نقاط عديدة تستدعي أيضاً المراجعة، وهي نقاط يعرفها كل طرف معني بمصير مصر وثورتها العظيمة، لكن هذه النقاط تصب جميعها في دعوة للجميع أن يستعيدوا روح الثورة التي هزت العالم كله، فيما هي تهز نظام مبارك، أي روح الائتلاف بين قواها، والتكامل بين شعبها وقواته المسلحة، والاندفاع في تطبيق ما يتفق عليه، وتنظيم الخلاف في موضوعات التباين، وتحديد الأولويات الداخلية والخارجية، والإصرار على التعبير السلمي عن موضوعات الخلاف.في الجزائر، وفي بداية التسعينيات دفع الجزائريون وما زالوا ثمن إقصاء استولد عنفاً، فكادت أرض المليون ونصف المليون شهيد أن تحترق، أما في تونس فقد اختار قادتها طريق الائتلاف فحصنت الثورة نفسها، واستوعبت تناقضات داخلية عديدة، وهي تقود اليوم مرحلة التحول الديمقراطي نحو ديمقراطية لا تستبعد أحداً، ولا تسمح لأحد أن يستأثر بالسلطة. لا بل اعتمدت اعتبار الدستور هو المدخل لهذا التحول، فانتخب الشعب مجلساً تأسيسياً من أجل وضع دستور ينظم حكم البلاد في ظل توافق يحترم التنوع الفكري والسياسي في بلد كتونس، كما يراعي نمط حياة عصرية يتمسك بها التونسيون.فهل تدرك مصر العظيمة، بشعبها وقواها المسلحة، بنخبها الفكرية وقواها السياسية، بمكوناتها المتنوعة وتياراتها المتعددة، أنها أمام فرصة تاريخية ينبغي ألاّ تضيعها، أو تترك نفسها أمام اختبار خطير قد يهدد كل ما حققته ثورتها من إنجازات.
Opinion
مصر.. مراجعــــة لا مــواجهـــة
22 يونيو 2012