إن كان حرق البوعزيزي لنفسه في تونس الشرارة الحقيقية لبدء ثورات الربيع العربي في بعض الدول التي كانت فيها انتفاضة الناس «حقيقية» دون أجندات مشبوهة، فإن هذه الفوضى أوجدت طريقاً سهلاً جداً لتطبيق مخططات قوى غربية عالمية كانت مخبأة في الأدراج منذ زمن.يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل: «إننا أمام سايكس بيكو جديدة تحل محل القديمة. الأولى كانت تقسيماً للعالم العربي وكانت الدولة العثمانية أولى الضحايا وقبلها العرب. أما الثانية فهي تقسيم لإرث مشروع قومي عربي لصالح تحالف أمريكي أوروبي وضحاياه كلهم عرب».العضو البرلماني البريطاني جورج غالاوي -المعروف بمواقفه الغريبة والمتطرفة- قال نفس الكلام، حيث يشير إلى أن العرب على أبواب عملية سايكس بيكو الثانية، بعدما تقبلوا الأولى والحدود التي رسمتها، والتي أكدت وحافظت على أن يكون العرب متفرقين مع ضمان السيطرة على ثرواتهم، بل يلفت الانتباه إلى أن العرب سيكونون أمام العدو السابق نفسه، وأن التاريخ يعيد نفسه.«سايكس بيكو» عبارة عن اتفاقية سرية وقعت في عام 1916 بين فرنسا وبريطانيا بمصادقة روسية، وقضت بتقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية المتهاوية وبعض المناطق العربية بعد الحرب العالمية الأولى. قسم «الهلال الخصيب»، فحصلت فرنسا على سوريا ولبنان والموصل، في حين سيطرت بريطانيا على بغداد والبصرة والخليج العربي والمنطقة الفرنسية بسوريا، إضافة لمينائي حيفا وعكا. عموماً التقسيم كان متشعباً لكن الاتفاقية تم التأكيد عليها في مؤتمر «سان ريمو» عام 1920 قبل عامين من إقرار الأمم المتحدة لوثائق الانتداب على المناطق المقسمة، جاءت بعدها في عام 1923 معاهدة «لوزان» لتعيد بعض الأراضي لتركيا. وكانت الكارثة الأكبر التي تبعت كل هذه العملية حينما انتهت فترة الانتداب البريطاني على فلسطين في 14 مايو 1948 ليتم إعلان قيام إسرائيل في اليوم التالي بناء على وعد «بلفور» على أجزاء دولة فلسطين التي كانت تحت حدود الانتداب البريطاني.كثير من المحللين ومتتبعي السياسة يرون ما يعصف بالعالم العربي اليوم بمثابة إحياء صريح لاتفاقية «سايكس بيكو» من جديد، رغم أن مفعول الأولى مازال سارياً في بعض المناطق ولكم في فلسطين المحتلة مثال صريح. بل تجزم غالبية عظمى بأننا أمام اتفاقية ثانية تمت أصلاً في الخفاء وبسرية تامة بين القوة العالمية الأولى الولايات المتحدة الأمريكية وبين قوى إقليمية وتجمعات إثنية بحيث يتحولون لأوصياء على التقسيمات الجديدة.بالرجوع لمخطط برنارد لويس الذي تطرقنا لملامحه بشكل تفصيلي الأسبوع الماضي يتضح بأننا بالفعل أمام «سايكس بيكو» ثانية، وما يثير القلق الشديد أن تفاصيل هذه الاتفاقية بناء على مخطط لويس وتقاطعه مع مشروع «الشرق الأوسط الجديد» تقود لنتيجة حتمية بأن المخطط الجديد أخطر بكثير من الأول.واشنطن أكثر المستفيدين مما شهدته بعض الدول العربية من ثورات شعوب ضد أنظمة حاكمة مستبدة، ونتحدث هنا عن الثورات الحقيقية في تونس ومصر وليبيا واليمن، إذ ما حصل فيها يمثل أرضية خصبة لتفعيل هذه المخططات جميعاً ولو على فترات زمنية أشك بأنها غير مجدولة ومحسوبة.لو جئنا للواقع العملي فسنجد أن المخطط بدأ أصلاً منذ إعلان الحرب على العراق، إذ ما كان حال العراق حينها، وما حاله اليوم؟! الجبهة الشمالية لمنطقة الخليج العربي سلمتها الولايات المتحدة بشكل واضح لمن يفترض أن تكون عدوتها الأولى في منطقة الشرق الأوسط، نعني هنا إيران، وهذا ما يؤكد بأن الحرب الدائرة بين واشنطن وطهران ليست سوى حرب إعلام وتصريحات وعقوبات اقتصادية تأثير هذه الأخيرة لن يذكر خاصة مع وضع اليد الإيرانية على نفط العراق.هنا أعيد لانتباهكم تصريح مستشار الأمن القومي الأمريكي في عام 1980 زبجنيو بريجنسكي حينما قال بأن الولايات المتحدة عليها ضمان تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأول لتستطيع من خلالها تصحيح «حدود سايكس بيكو».هذا الكلام أبداً لا يجب أن يمر مرور الكرام، إذ الحديث عن تصحيح حدود الاتفاقية لا يعني إلا إيجاد تقسيم جديد للمنطقة، يعني حدوداً جغرافية جديدة، يعني استحداث دويلات وتقسيماً لدول، ينتج عن ذلك توزيع مناطق النفوذ على قوى معينة، وفرز الأطياف وإحداث المزيد من الفرقة، بحيث تكون الصورة أشبه برقعة شطرنج يحرك بيادقها وقطعها شخص واحد فقط يمسك بكل خيوط اللعبة.المخطط الحالي هو الأخطر على الإطلاق، وهو ما يدفعنا للمضي بقوة لدعم فكرة قيام أي مشروع وحدوي يجمع ولا يفرق المستهدفين من الدول، مثل اتحاد خليجي متكامل، أو وحدة عربية فعلية لا اسمية تضع هدفاً رئيساً لها يسمو فوق كل الأهداف يتمثل بفهم الخطر المحدق من وراء هذه المخططات ويضع أفضل السبل للتصدي له.استمرار الغفلة أو الاستهانة بوجود مخططات مثل هذه -واضعوها لا يتوانون عن الإفصاح عنها بكل جرأة- مسألة مقلقة بالفعل. مثلما تم تقسيم السودان، ومثلما سُلِم العراق لإيران، ومثلما اُحتلت فلسطين وهُجر أهلها، يمكن عبر إعادة تحديد الملامح من خلال «سايكس بيكو ثانية» أن نرى شرقاً أوسطاً جديداً بدويلات مستحدثة وتقسيمات عرقية طائفية تحدث «فوضى شاملة» تتحول لنار حارقة لا تبقي ولا تذر.