لا بد لنا هنا من الإشارة إلى أن إسرائيل، تراعي عند إقدامها على أي من تلك الحروب العدوانية تضافر ثلاثة عوامل ذاتية وعالمية، بالإضافة إلى الوضع العربي الذي تحدثنا عنه، هي: إنشغال القوى الدولية بأحداث أخرى تفوق في أهميتها الدولية ما يستجد على ساحة الصراع العربي الإسرائيلي من وقائع، وحينها تصبح إسرائيل في حل من أية ضغوط دولية غير متوقعة تضطرها إلى إجراء أي تغيير في تلك الاستراتيجية العدوانية. فالمعروف عن إسرائيل أنها تتحاشى تحمل أدنى أشكال الضغوط الخارجية، وعلى وجه الخصوص تلك القادمة من منظمات دولية، كتلك التي عرفتها إثر اجتياحها للأراضي اللبنانية في الرابع عشر من آذار 1978، عندما أدان مجلس الأمن هذه العملية، ونجم عن ذلك القرارين 425 و426 و«الطلب من إسرائيل الانسحاب الفوري غير المشروط من لبنان”، بعد أن "أقامت إسرائيل حزاماً أمنياً بمسافة عشرة كيلو مترات لحماية شمالها من هجمات الفلسطينيين”. أما العامل الثاني، فهو تأمين تماسك الجبهة الداخلية، وضمان خلوها من أية تصدعات داخلية منبعها خلافات محلية محضة تحرمها من الإجماع الذي تحتاجه خططها العدوانية التوسعية أو الوقائية. أما الثالث، فهو إجماع المؤسسات العسكرية والأمنية الإسرائيلية، بما فيها إدارات صنع قرارات السياسة الخارجية الإسرائيلية، على كون الظروف مواتية لأية استراتيجية هجومية تحتاج إلى تحرك عسكري خارج الحدود الإسرائيلية، الأمر الذي من شأنه تزويد القوة الضاربة الإسرائيلية بما تحتاجه من دعم لوجستي على الصعيد الداخلي، وسياسي على المستوى الخارجي. باختصار تعمل إسرائيل على تحقيق الاستفادة القصوى من الحالتين من أجل تنفيذ مشروعها التوسعي استجابة مباشرة للرأي العام الإسرائيلي الداخلي من جانب، وصد أي ضغوط محتملة من الخارج من جانب آخر. اليوم، وربما لسوء الحظ العربي تتعانق الظاهرتان وتجسدان نفسيهما في حالة واحدة تتداخل فيها مظاهر الضعف، بالمفهوم الاستراتيجي، مع علامات النهوض بالمدلول التاريخي. وربما هذه من الحالات النادرة التي تتجسد فيهما الحالتان بشكل شبه متطابق يمكن تلمسه في الحالة العربية العامة. فمن جانب هناك نهوض عربي متفاوت يستجيب لحالة موضوعية ملحة للتغيير، تفرضها محموعة من العوامل الذاتية العربية، في تفاعلها المباشر اللصيق بالتحولات التي تشهدها المجتمعات المتقدمة في الشرق والغرب جراء ما تفرزه ثورة الاتصالات والمعلومات من عناصر ذلك التغيير، يرافقه، وبشكل موضوعي أيضاً، تخلخل في أوضاع الأنظمة الرسمية العربية لرفضها الاستجابة لرياح تلك التغييرات وإصرارها على الوقوف غير المنطقي في مواجهة مباشرة مع رياحها. من جانب هناك نهوض مصري عارم، ما زال يحاول جاهداً، حتى بعد وصول مرسي إلى الرئاسة، إخراج مصر من حالة الضعف، في علاقاتها مع محيطها العربي، وإطارها الشرق أوسطي، بما فيها تلك الخاصة مع إسرائيل، إلى الحالة التي تليق بمكانة مصر على المستويين السياسي والاستراتيجي. هذا النهوض لم يعد محصوراً في قوى ميدان التحرير، بل تشاركها فيه قوى وطنية غيورة أخرى، بما فيها من كانت في السلطة السابقة. لكن هذا التيار الناهض تشده إلى الأسفل، وتضعف من قدراته إلى حد ما، مجموعة من العوامل التي تسيطر على الأوضاع القائمة في مصر يمكن رصد الأهم منها في النقاط التالية:1. نفوذ الحرس القديم، وعدم فقدانه لمراكز القوى المفصلية التي تدير محرك الدولة. فمن السذاجة بمكان توهم قدرة إنجازات الربيع العربي على اجتثاث جذور ذلك النفوذ الراسخة، التي تعود في أفضل الحالات إلى مطلع الخمسينات من القرن الماضي، إن لم تكن أقدم من ذلك بكثير. وأسوأ ما في الأمر هو تلك الجبهة الاجتماعية الطفيلية التي ارتبطت مصالحها الاقتصادية مع الرموز القيادية في ذلك الحرس، لتشكل في نهاية الأمر جبهة واسعة قوية غير معلنة، ستقف بالضرورة ضد أي تغيير، بما في ذلك العلاقات القائمة بين القاهرة وتل أبيب. 2. عدم حسم الصراع بشكل نهائي بين مراكز القوى في المؤسسة الحاكمة المصرية، وهي مسألة لا تقع مسؤوليتها على الرئيس المنتخب محمد مرسي وحده، بل تقتضي تشكيل جبهة وطنية، ليست قائمة عملياً اليوم، تأخذ على عاتقها إنجاز هذه المهمة. هذه الحالة السياسية غير الصلبة لا توفر الحد الأدنى من التماسك الذي يمد مصر بالقوة التي تحتاجها لمواجهة أعداء خارجيين مثل إسرائيل، وبالقدر ذاته تشجع هذه الأخيرة كي تستفيد من ذلك لإحراج السلطة في مصر، من خلال إشغالها في معارك جانبية (رسالة نتنياهو الملغومة أحد أمثلتها الصارخة) تستنزف فيها قواها، وتحول دون تركيزها على القضايا الأكثر أهمية، التي تعجل بخروج مصر معافاة من أمراضها التي ورثتها من النظام السابق، وتؤهلها لمنازلة إسرائيل، على الصعيد السياسي كمرحلة أولى. 3. أزمة مصر الاقتصادية المزمنة، ولكي لا نظلم ثورة يناير 2011، وكما يؤكد ذلك أستاذ الاقتصاد السياسي، عبد العزيز عز العرب، حين يقول في ثاني حلقة نقاشية في سلسلة المائدة المستديرة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بعنوان "ما وراء الأحداث”، لمعالجة القضايا الاقتصادية المعقدة التي تواجه مصر في عام 2012، "إن ثورة يناير 2011 لم تكن السبب في تعثر الاقتصاد المصري، بل إن الاقتصاد المصري أخذ يحتضر منذ ما يقرب من 40 عاماً مضت، (مضيفاً) في الواقع، أصبح تدهور الوضع الاقتصادي في مصر محركاً رئيساً للإضرابات العمالية المتتالية والاضطرابات المدنية الواسعة والتي أدت في النهاية إلى قيام الثورة”. لكن في مارس 2012 (أي بعد ثورة يناير) لخص وزير القوى العاملة والهجرة فتحي فكري، في كلمته أمام الدورة (313) لمجلس إدارة منظمة العمل الدولية، المنعقدة بجنيف، بعض معالم وأسباب الأزمة الاقتصادية في مصر. فبعد تحذيره من " أن الوضع الاقتصادي في مصر حالياً أكثر خطورة عما كان عليه عقب أزمة 2008”، عاد فأوضح بأن "معدلات البطالة ارتفعت إلى نسبة 13.5%، وغالبية هذه النسبة بين أوساط الشباب والفئات المتعلمة، نتيجة إبطاء وتيرة الاستثمار والنشاط الاقتصادي بوجه عام”. إدراك بنيامين نتنياهو لهذه الصورة المصرية، وربما بعض عناصر الضعف الأخرى، ذات العلاقة بموازين القوى العسكرية والأمنية بين مصر وإسرائيل، والمائلة في ظل الظروف القائمة لصالح هذه الأخيرة، تشجعه على إرسال تلك الرسالة الملغومة التي تضع مصر، بعد وصول مرسي إلى السلطة، بكل خلفياته السياسية والتزاماته العقائدية، أمام خيارات صعبة عند تحديد موقفه من التنافس المصري – الإسرائيلي بشكل عام، والصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على وجه الخصوص، يضاعف من صعوبتها مجموعة الخيارات، أو بالأحرى الألغام التي حملتها تلك الرسالة في ثناياها، وسيجد مرسي نفسه أمامها.فمن جانب ليست مصر، بواقعها الحالي والظروف التي أشرنا لها أعلاه، في وضع يسمح لها بالإقدام على أي تغيير في الاتفاقات التي كبلها بها النظام القديم، بغض النظر عن رغبة مرسي في القيام بذلك، وبالمقابل، يصعب على مرسي أيضاً أن يضع سدادات في أذنيه تمنعه من سماع أصوات التأييد الفلسطيني الذي جاء على لسان قادة حركة "حماس”، والمبطن بنداء يدعو مصر أن تأخذ دورها القيادي الذي يليق بها في ساحة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، أن لم يكن في استطاعتها ولوج ساحته العربية الأكثر شمولية، والأثقل مسؤولية. أمام مرسي شوط طويل عليه أن يقطعه قبل أن يزيل الألغام من تلك الرسالة الصهيونية الخبيثة التي عكست الكثير من اللؤم اليهودي الذي تختزنه المؤسسة الصهيونية العالمية ضد مصر.
Opinion
رسالة نتنياهو الملغومة «2»
04 يوليو 2012