نكمل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن حركة «عدم الانحياز» في القرن الحادي والعشرين، وإنني كمتخصص في الشؤون الدولية ومن بينها حركة «عدم الانحياز»، وحضرت معظم اجتماعاتها، على مدى 20 عاماً، وتابعت أنشطتها كباحث طوال الفترة منذ نشأتها وحتى الآن، وألفت فيها 3 كتب، وكتبت فيها العديد من الدراسات المنشورة باللغتين العربية والإنجليزية، وبعضها وجدت من يقتبس منه من الأجانب، ولفت نظري لذلك أستاذي الدكتور بطرس بطرس غالي عندما كان وزيراً للدولة للشؤون الخارجية وترأس وفد مصر في أحد المؤتمرات الوزارية للحركة في منتصف الثمانينات، وعندما جلست معه لأعرض عليه بعض التحليلات في إطار العمل الدبلوماسي قال لي مازحاً لقد أصبحت شخصية دولية مهمة حيث يقتبس الآخرون من دراساتك، ولم أكن قد رأيت الكتاب الذي أشار إليه، فبادرت بالاتصال بالمؤلف واشتريت نسخة بسعادة غامرة آنذاك، وكانت الدراسة المقتبس منها منشورة باللغة الإنجليزية في الهند، بعد قمة «عدم الانحياز» التي عقدت في نيودلهي عام 1983 إبان الحرب العراقية الإيرانية، والتي أدت لانقسام شديد في الحركة، وكان مقرراً آنذاك عقد القمة في بغداد، ولكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية رفضت ذلك، واعترضت بشدة، باعتبار أن العراق دولة معتدية وخرجت عن مبادئ «عدم الانحياز» باعتدائها على دولة عضو، كما أن العراق بلد غير آمن، لأن هناك غارات جوية وحالة حرب مستمرة على أراضيها، وقامت إيران بعمل «لوبي قوي» أسفر عن الوصول لحل وسط وهو عقد القمة في نيودلهي.وكانت الدراسة التي أعددتها بعد القمة بعنوان «دراسة في الإحصاء السياسي لأعمال قمة نيودلهي وقراراتها»، وحللت مداخلات الوفود كلمة كلمة، وعلقت على النتائج وعلى موقف مختلف الوفود بطريقة موضوعية، فكان هناك مثلا وفد يقدم الكثير من المقترحات مثل وفد بنغلادش آنذاك، وقلة منها أخذت في الاعتبار، بينما وفد آخر مثل الهند قدم مقترحات قليلة نسبياً، وأخذت معظمها في الوثيقة، وهكذا انعكست موازين القوة الحقيقية في نتائج العمل في الحركة مهما كانت براعة دبلوماسييها، وكان دبلوماسيو بنغلادش قمة في الكفاءة والخبرة والنشاط. إن الدرس الذي أبرزته في تلك الدراسة أن العبرة ليست بالشعارات أو العنتريات، وإنما بالقوة الحقيقية والأوزان الحقيقية للدول. وهنا نجد أن ثمة فارقاً ضخماً بين العمل السياسي الدولي والمفتوح على الساحة الدولية، والعمل السياسي الداخلي الذي تستطيع فيه دولة منهزمة مثلاً تدعي أنها انتصرت، وبالانغلاق الإعلامي والسياسي آنذاك تستطيع أن تجعل معظم شعبها يتصور الأمور على غير حقيقتها. أما في القرن الحادي والعشرين حيث السماوات المفتوحة والفضائيات والأقمار الاصطناعية، فإن خداع الشعوب ليس أمراً سهلاً، بل هو صعب، وإن لم يكن مستحيلاً، فهناك بعض الدول يتصور قادتها ذلك، ويعيشون في أحلام وردية، ويصحون فجأة علي الحقيقة المرة، بعد فوات الأوان، وهذا يذكرنا بقول والدة أبي عبد الله محمد آخر ملوك الدولة الإسلامية الأموية في الأندلس بعد هزيمته وسقوط غرناطة عام 1492عندما رأته يبكي فقالت قولة مشهورة؟«لا تبكي كالنساء على ملك لم تصنه كالرجال».إضافة إلى ذلك، إن من يتابع الحركة ويقرأ أدبياتها يتصور أن العالم لم يتغير وهو جامد منذ منتصف القرن العشرين، ولذلك فالأدبيات تغيرت تغيراً محدوداً للغاية، واجتماعات المنهجية لم يتم تطبيق ما اتفق عليه فيها، ولم تتغير رغم كثرة اجتماعاتها.قد يشعر المرء الآن بحسرة شديدة كباحث أو كاتب أو مفكر أو سياسي يتابع أعمال الحركة. إن كثيراً من العاملين من الدبلوماسيين أو السياسيين فيها يعيشون كارثة كابوس ليل طويل. يكفي إلقاء نظرة على الوثيقة الختامية المقترحة لمؤتمر قمة طهران السادس عشر لحركة دول عدم الانحياز، لتجدها تقارب 200 صفحة، تتحدث عن كل قضية تحت الشمس وكأن الحركة أو دولها أصبحت محور السياسة الدولية، ولا يدركون أن الإعلام الدولي نادراً ما يذكر خبراً عن اجتماعاتها، ولا يقتبس من وثائقها، لأن مصداقية الحركة أصبحت مفقودة واجتماعاتها شكلية، وترفع شعارات لا تطبقها ولا تؤمن بها، وتتصارع دولها مع بعضها بعض، وأما التعاون والأفكار الجميلة عن التنمية وحقوق الإنسان وتطوير الأمم المتحدة وإصلاحها والنظام الاقتصادي الدولي، والنظام الإعلامي الدولي فقد أصبحت حلما، والأكثر لفتا للنظر أن قمة طهران رفعت شعاراً عنوانه «السلام المستدام من خلال الحوكمة الدولية المشتركة» هل هناك وهم أكثر من هذا العنوان، أي سلام في العالم وبالذات في منطقة الشرق الأوسط، وأية حوكمة دولية مشتركة، هل «عدم الانحياز» أطراف في السياسة الدولية، وكثير منهم مهمشين، وضعفاء، وفقراء، ومتخلفين سياسياً، واقتصاديا، واجتماعيا، إن الذين صاغوا هذا العنوان الجميل لا يعرفون الفارق بين الأماني والأحلام، وبين الواقع السياسي والاقتصادي والعسكري والتكنولوجي لدول الحركة، مع الاحترام والتقدير لبعض دولها التي تمتلك تكنولوجيا متقدمة واقتصاد أصبح من العشرين الكبار مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا، ولديهم نظم ديمقراطية تحترم مصالح شعبها وحقوق الإنسان، ولا تقوم بمغامرات عسكرية ولا ترفع شعارات عنترية، ولا تتورط في طموحات لا تقدر عليها، بخلاف دول صغيرة أو متوسطة أخرى. متخصص في الدراسات الدولية والاستراتيجية