إن المعاناة التي يعانيها الإنسان لا تحول دون أن يحقق أفكاره الخيرة والنيرة، لأن هذه المعاناة جزء من غذاء الطريق إلى ما لا بد له أن يكون. وأغلب العظماء، بل كلهم تقريباً، لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من مجد وعظمة إلا عبر المرور بطريق المعاناة، الذي يعتبره البعض درب المجاهدة أو نهر التطهير، وما الاغتسال بالأنهار المقدسة إلا أحد الرموز التي تعبر عن التطهر من الأرجاس والآثام لمواصلة الطريق خفافاً من كل الموبقات القديمة.آني شويينغ دولما؛ التي تسير دائماً حليقة الرأس وترتدي ثوبها البني نحو أحد فنادق كاتماندو، بحذر شديد وبرصانة وصفاء نتوقعهما عادة من أية راهبة بوذية، هي واحدة من الفنانات العظيمات في العالم الذي نعيش.لكن دولما البالغة من العمر 40 عاماً والملقبة بـ "الراهبة المغنية”، ليست راهبة عادية، بل هي نجمة موسيقية استثنائية تجول العالم بهدف تغيير واقع آلاف الفتيات النيباليات الفقيرات، وسجلت دولما اثني عشر ألبوماً حتى اليوم، وهي تقدم عروضاً غنائية منذ أكثر من عشر سنوات في مهرجانات وحفلات مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة. أما المبالغ التي تجنيها من موسيقاها التي تجمع التقليدي والمعاصر فتذهب كلها تقريباً إلى مشاريع تهدف إلى دعم تعليم الراهبات البوذيات ورفاههن.وقد عاشت دولما ماضياً أليماً وطفولة وحشية، كانت لتملأ قلبها بالحقد، على حد قولها، لولا معلمها الذي اكتشف موهبتها وخلصها. ولدت دولما في عائلة تيبتية فرت من الاحتلال الصيني وترعرعت بالقرب من دير بوذي في كاتماندو، وكانت تتعرض للضرب يومياً على يد والدها ما جعل طفولتها "أليمة جسدياً ونفسياً”، على حد قولها. لكنها تقول إنها تمردت وقررت الهرب من كنف عائلتها في سن الثالثة عشر لتصبح راهبة. وتضيف "كنت شجاعة بما يكفي لأقرر أنني لم أعد أريد تلك الحياة”. فانتقلت دولما للعيش في دير يقع على هضاب مرتفعة تطل على كاتماندو والتقت هناك بمعلمها تولكو أورغيين رينبوشيه، وهو معلم بوذي نافذ في النيبال. وتقول "يعود الفضل كله إلى معلمي في ما أنا عليه اليوم. لا أعلم ما كان ليحل بي لو لم ينعم علي بتعاليمه التي حولت الحقد الذي كان في داخلي إلى عطف وشفقة”. إن وجدت معلماً، أو كتاباً، أو صديقاً، أو أماً، أو والداً، يهديك نحو طريق الخير، فأنت بهذه الحالة تكون محظوظاً. فإن لم تجد فأنت محظوظ أيضاً، عالمهم ليس المعلم أو الهادي، إنما أنت.. أفكارك التي تدور في رأسك على مدى الـ 24 ساعة، ماذا تريد أن تحقق في حياتك القصيرة هذه؟ ماذا تريد أن تكون عليه وأنت تقوم بدورك بين الولادة والموت؟. إن أفكار المحبة تقود إلى مساحات أوسع بمئات الأضعاف من المحبة، وأفكار الخير دائماً تساهم في نشر غيوم الخير إلى كل جهات الأرض.من هنا أقول دائماً؛ اِنسَ الألم الذي عشت في ماضيك، اِنسَ من ضايقوك أو أهملوك، أو نقدوك، أو شتموك، وتذكر من رفعك من سقطة، وسقاك ولو قطرة، ومدك بكلمة، ودعمك بابتسامة. فالضربة التي لا تقتلك تقويك وتشد من عضلاتك. ولنتعلم من تجربة هذه الراهبة العظيمة في العمل الخيري والتطوعي، فإن كل مثقال خير يحسب في حسنات الإنسان، في أي زمان وأي مكان. دائماً.. دائماً حوِّل السلبي إلى إيجابي.