الجموع تتوافد على ميدان التحرير، وفي صفوفها جماعة الإخوان المسلمين ومؤيديهم، مؤكدة عزمها على العودة مجدداً إلى "الثورة”، فيما لو اختلفت نتائج الانتخابات عن فوز مرشح الإخوان المسلمين محمد مرسي، وعلى الطرف الآخر، يحاول المرشح الرئاسي الآخر أحمد شفيق، أن يبدو متماسكاً وهادئاً، في انتظار نتائج الطعون التي قدمها، والتي من شأنها، فيما لو أخذت بها اللجنة المشرفة على الانتخابات أن تحمله إلى كرسي الرئاسة المصري، وبهذا، ربما تعيد العملية الانتخابية برمتها إلى المربع الأول. الغريب في مشهد الشارع السياسي المصري، هو ذلك التناقض الشديد في صور، وليس صورة، النهايات التي يمكن أن يتوصل لها من يحاول قراءته بشكل علمي دقيق. فهناك احتمال من الخطأ إسقاطه، يقود إلى عدم صمود الطعون التي رفعتها حملة شفيق، ومن ثم تنتهي الأمور، وبسلاسة غير متوقعة إلى وصول مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة. لكن هناك أيضاً احتمال صحتها، ومن ثم بطلان ما يربو على مليون صوت، الأمر الذي يمكن أن يرجح كفة أصوات أحمد شفيق، ومن ثم فوزه بدلاً من منافسه، ووصوله هو، وليس مرسي، إلى كرسي الرئاسة.خطورة كلا السيناريوهين، أنهما، ربما ليسا على قدم المساواة، يفتحان الأبواب أمام خيار واحد، لا يوجد سواه هو عودة العنف إلى الشارع الذي سينقسم بين مؤيد، لأي من القرارين، ومعارض للآخر، ومن ثم دخول الشارع السياسي في دوامة عنف جديدة ليست هناك من قوة، تمتلك التنظيم والخبرة، إلى جانب السلطة، سوى المجلس العسكري، الذي بوسعه، حينها، أن يجد المبرر، المصحوب بالقدرة على التدخل السريع بشكل فاضح وقوي، لاستعادة الأوراق التي جردته منها الثورة، والعودة مجدداً، وفي لبوس مختلفة للإمساك بزمام الأمور.فما لم تحدث معجزة، أو تبرز قوة، بخلاف القوى الثلاث الفاعلة اليوم في ذلك الشارع: الإخوان، شفيق، المجلس العسكري، ليس هناك من سيناريو آخر، يقود إلى إنقاذ سفينة الأوضاع السياسية المصرية، وإيصالها إلى بر "الاستقرار” من ذلك الذي يتولى الإمساك بدفته المجلس العسكري، دون استبعاد القوة (الإخوان أو شفيق) التي ستوافق عليه، أو تسعى لنسج تحالف معه. مثل هذا السيناريو سيعمل على تكريس السلطة بين يدي ذلك المجلس بعد أن يرمي لهذا الطرف أو ذاك، وربما كليهما معاً، ببعض المكاسب التي لا تمس من جوهر إمساك المجلس بمقاليد الأمور في مصر.هذا ما تشير إليه العناصر التي بدأت تطفو على سطح ذلك الشارع، والنتائج التي آلت لها مسيرة الصراعات التي تفاقمت منذ بداية حملات الانتخابات، وأطلت برأسها منذ الجولة الأولى، وكرستها الجولة الثانية.أسوأ ما في الأمر هنا، هو أن الجهة، التي ماتزال تمسك رسمياً بمقاليد السلطة اليوم، هي المجلس العسكري، وهي، إلى حد بعيد، المرجعية التي يتوجه نحوها، موافقاً أم معارضاً لها أي طرف، سواء كان ذلك الطرف، رافضاً لقرارات المجلس، أو باحثاً عن حل يبدو أنه مخالف لها، أو متقدماً بمشروع يوحي بأنه متميز عنها. هذا يجعل كل الطرق التي تسلكها جميع الأطراف المتنازعة، على اختلاف تلاوينها، تتجه، بوعي أو بدون وعي، نحو هدف واحدة ليس هناك سواه، حالياً، وهي المجلس العسكري، الذي بدأ رويداً رويداً يستعيد بعضاً من توازنه الذي هزته الثورة المصرية، ويسترجع بعض الأوراق المهمة التي فقدها جراء تداعياتها. ولربما في الأحكام التي صدرت على الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك وأبنيه، والشلة الفاسدة المحيطة بهما، الكثير من الدروس التي ينبغي مراجعتها بتمعن، والرسائل التي تستحق القراءة بهدوء بعيداً عن أي انفعال، عند محاولة فهم ما يحدث اليوم في مصر.فمن جانب، لا يمكن للإخوان المسلمين أن يركنوا، بشكل مطلق، إلى نتائج لصالحهم تنجم عن دعواتهم للتجمهر نحو الميادين، ومطالبة المواطنين التخييم هناك إلى مالا نهاية، من أجل الضغط على المجلس العسكري كي يتنازل عن مواقفه وقراراته، بعد أن بدأ يجمع الكثير من عناصر القوة التي فقدها مؤخراً، بين يديه، وبالتالي فمن الطبيعي أن يبحثوا عن حل توفيقي آخر، يقوم على تقديم بعض التنازلات، ربما من المبكر التكهن اليوم بصيغتها النهائية، لكنها، وهو أمر طبيعي، تنطلق من مساومة، تقوم على عدم المساس بالسلطات الجوهرية التي يريدها ذلك المجلس، ودون تشويه الصورة الخارجية التي يبدو فيها الإخوان، الذين ربما يبدو شكلياً أنهم ممسكون بالسلطة. هذا الخيار، ربما يجد فيه الإخوان المسلمون المنقذ الذي يحول دون استنزاف قواهم في معارك مبكرة لم يعدوا العدة لها، ويبيح لهم إعادة ترتيب صفوفهم لمعارك أخرى قادمة يتهيأون لها بشكل أفضل، مستفيدين من تجربتهم الأخيرة في الشارع، وأمام صناديق الاقتراع. لا شك أن ذاكرة جماعة الإخوان السياسية ماتزال تحتفظ بالمشهد السياسي الذي واجهته الجماعة في العام 1954، الذي سبق معركتها مع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، ممثلاً للمؤسسة العسكرية المصرية، التي يمثلها اليوم أحسن تمثيل المجلس العسكري.من جانب آخر، لن يجد شفيق، وهو القادم من رحم ذلك المجلس، غضاضة، في طرق أبواب المجلس العسكري، باحثاً عن مدخل يعيد أوراق لعبة السياسة إلى يدي ذلك المجلس، ويكتفي هو ببعض المكاسب، التي هي الأخرى لا تشكل تحدياً للمجلس، لكنها تزود شفيق ببعض المكاسب، وتمده بشحنة قادرة، مهما كان ضعفها، على تقوية حضوره في الشارع، وتؤهله، فيما لو أراد، خوض معركة أخرى، مستفيداً هو الآخر، من تجربته الطويلة داخل مؤسسات النظام القديم، ممزوجة بالخبرة التي اقتناها خلال معركة الرئاسة التي خاضها مؤخراً.خلط الأوراق، مهما بلغت براعة الحاوي، تبقى محدودة بمجموعة من العوامل، الأهم فيها هو محدودية عدد الأوراق أولاً، والفترة الزمنية التي يستغرقها ذلك الخلط ثانياً. وطالما أن أوراق الشارع المصري اليوم محدودة، والفترة الزمنية للخلط غاية في القصر، فمن غير المستبعد أن يجد ذلك الحاوي، أو الحواة أنهم يسحبون الورقة ذاتها، في كل مرة يريدون قراءة طالعهم، والتي هي ورقة المجلس العسكري. لكن تبقى القضية الأهم هنا وهي أنه في كلتا الحالتين، لن يستطيع المجلس العسكري، مهما حاول، أن يعيد عقارب الساعة نحو الوراء، فهناك حقائق قوية رسختها الثورة المصرية في ذلك الشارع، وليس في وسع أية قوة قادمة أن تتجاوزها. فمن الطبيعي، والمنطقي أيضاً، أن يعيد المجلس العسكري، فيما لو انتهت الأوضاع إلى يديه، حساباته، ويراقب، ذاتياً، الخطط التي سيضعها، والقوى التي سيوكل لها تنفيذ برامج تلك الخطط. وهذا من شأنه تضييق الخناق على قنوات الفساد، وتقليص الفجوات التي ينفذ منها المستفيدون من ذلك الفساد، ومن يعيشون على تفشيه، ومن ثم فهناك خطوات للأمام قد أنجزت، وليس هناك من بوسعه أو يملك الجرأة على التراجع عنها، بمن فيهم رجالات المجلس العسكري ذاته
Opinion
كل الطرق تقود إلى المجلس العسكري
23 يونيو 2012