بعد مارثون انتخابي طويل، ومعركة سياسية شرسة ومعقدة في جوهرها الداخلي، ومتعددة الأوجه في شكلها الخارجي، وصل مرشح جماعة الإخوان المسلمين محمد مرسي إلى كرسي رئاسة مصر. ومن الطبيعي أن تكون لدولة بحجم مصر السكاني، وموقعها الاستراتيجي، وتنوعها الاجتماعي، وتطورها السياسي، أسباب تاريخية، ونتائج مستقبلية، ستترك بصماتها الواضحة على مسار مصر على الصعيدين الداخلي والخارجي، يمكن تحديد معالم الأولى، وهي الأهم والأكثر إلحاحاً، في النقاط التالية: 1. نجاح العملية السلمية الحضارية للوصول إلى السلطة، فصندوق الانتخابات هو الذي أوصل محمد مرسي إلى كرسي الرئاسة. وفي انتظار ردود فعل منافسه أحمد شفيق، آخر رئيس وزراء مصر في عهد الرئيس السابق محمد مبارك، والطعون التي يمكن أن يسوقها، يمكننا القول إلى بأن الانتخابات الرئاسية في مصر قد سارت وفق قوانينها الصحيحة المتعارف عليها دولياً، إذا استثنينا بعض التجاوزات المحدودة، وبعضها كان فردياً معزولاً، لم تؤثر على مسار الانتخابات، ولا النتائج الصحيحة التي انتهت إليها. وتوحي النتائج المتقاربة بين المتنافسين، بعد فرز حوالى 97% من الدوائر الانتخابية، التي أعطت 52.5 % لصالح مرسي، مقابل 47.5 % لصالح منافسه شفيق، بالكثير من مصداقية تلك الانتخابات، وشفافيتها أيضاً. 2. قبر، ويأمل المواطن المصري أن يكون ذلك إلى غير رجعة، نظام السلطة العسكري، ومعه نظام الاستفراد بالسلطة، الذي جثم على صدور مصر منذ ما يربو، في أقصر القياسات، ما يزيد على النصف قرن. هذا الكنس الديمقراطي لذلك النظام، يضع مرسي، ومعه جماعة الإخوان، وربما القوى والمؤسسات الإسلامية الأخرى ذات العلاقة، وعلى قدم المساواة، أمام خيارات تاريخية ومعقدة، لا تقف حدودها عند الموقف من القوى الأخرى المختلفة مع الإسلام السياسي المصري على المستوى الديني مثل الكنيسة المصرية، وحضورها السياسي في مصر، والقوى الأخرى من علمانيين، ومدنيين، أو حتى تلك التي تختلف معه في نطاق الفكر الإسلامي مثل جماعة السلف. هذه الخيارات ليست مجرد المناظرات الفكرية، وإنما هي التشريعات الدستورية، والقوانين والأنظمة، سوية مع الإجراءات الإدارية، التي سيقدم عليها مرسي خلال فترة حكمه القادمة التي ستمتد إلى أربع سنوات قادمة. 3. التصرف، بحنكة وحكمة، في التركة الضخمة التي ورثها، المثقلة بشكلاتها وتعقيداتها، وهي مهمة ليست بالسهلة، كما قد تبدو من الوهلة الأولى، تكفي التوقف عند التعديلات الدستورية التي أصدرها المجلس العسكري، بما فيها تلك الخاصة بصلاحيات الرئيس القادم، وفي القلب منها حل البرلمان، وتلك المواد المكملة، وما تفرع عنهما من حقائق على الأرض، لا يستطيع الرئيس المنتخب أن يتحاشاها أو القفز فوقها. هذه المعالجة، لم يعد في الوسع الإقدام على خطواتها، بشكل منفرد، أو بقرارات فوقية، بل تتطلب التقيد، قدر الإمكان، بأقصى سلوكيات المدرسة الديمقراطية، بما في ذلك التشاور مع القوى المختلف معها. بعد ذلك، لا بد للرئيس المنتخب إن يلتفت نحو ذلك الجانب الاقتصادي والسياسي من تلك التركة، كي يتناول أوضاعها، بمنهج جديد يمحو من ذاكرة المواطن، تلك الصور المحبطة، ويستبدلها بتلك الواعدة القادرة على نقل المجتمع المصري من أوضاعه المتردية، إلى تلك المشرقة. من الطبيعي أن يجد مرسي نفسه يسير في حقل من الألغام، الذي ليس في وسعه أن يجازف بانفجار أي منها، لأن تداعيات انفجاره لن تكون محدودة بل مدمرة، في هذه الفترة الحساسة، التي يسيطر عليها ترقب المواطن المشوب بنظرة متشككة في مصداقية النظام الجديد، مصدرها انعدام الثقة المتراكم من العلاقة التي نسجها النظام العسكري السابق مع ذلك المواطن. 4. بناء العلاقة المجدية مع القوى الاجتماعية المستفيدة من النظام السابق، وهي ليست قليلة في العدد، ولا ضعيفة في الحضور. ولعل في نتائج الانتخابات المتقاربة، التي وإن جاءت لغير صالح شفيق، وهو أحد الرموز الممثلة لتلك القوى، تأكيد على عدم استسلامها، وإصرارها على العودة من أبواب أخرى للسلطة من أجل الاستمرار في الإمساك بها، والاستفادة من تلك الامتيازات التي كانت تنعم بها، ويهددها مجيء مرسي للحكم، وعبر صناديق الاقتراع. لكن ذلك التقارب، ( 52.5 % مقابل 47.5 %) بالقدر الذي يؤكد إصرار المواطن على طي صفحة وبدء صفحة أخرى جديدة، يؤكد الثقل الكبير الذي ما تزال تلك القوى تتمتع به، والأوراق القوية التي ما تزال بحوزتها، ويضع مرسي في موقع لا يحسد عليه. 5. قطف جماعة الإخوان المسلمين في مصر ثمار مسيرة طويلة تعود إلى العام 1954، عندما وقفوا حينها وجهاً لوجه أمام ثورة 1952 الناصرية، والتي انتهت بالصدام بينهما، وما تلا ذلك من حملات متتالية أدت إلى إعدام أهم رموز الجماعة وفي المقدمة منهم مرشدهم حسن البنا، والزج بأعداد كبيرة منهم، من بينهم كوادر قيايدية مرموقة في غياهب السجون. ما يبدو اليوم، وخاصة بعد تصاعد حرارة خلافاتهم مع الرئيس الأسبق لمصر محمد أنور السادات قبيل اغتياله، في نهاية السبعينات من القرن الماضي، أن جماعة الإخوان المسلمين قد أعادت ترتيب صفوف تنظيمها، ورصها وفق خطة مرسمومة، ارتكزت على مكونات واضحة هدفت إلى حماية الذات، وتحاشي الدخول في صدامات مباشرة مع النظام، حتى بعد رحيل السادات، وصعود الرئيس المصر المخلوع محمد حسني مبارك، والتهيؤ لفرصة مثل تلك التي أتاحتها ثورة 25 يناير 2012. 6. وضع جماعة الإخوان المسلمين أمام خيارات صعبة أمام إعادة بناء الدولة القادمة، وهيكلة أركانها. فهناك قائمة طويلة من الاستحقاقات التي تطالب باتخاذ مواقف محددة منها في سياق التأسيس للدولة القادمة، يأتي على رأسها: الدستور القادم لمصر، وهل سيلتزم الرئيس الجديد، كونه ينحدر من رحم جماعة الإخوان السلمين، بحذافير الشريعة الإسلامية، ويجعلها المصدر الوحيد للتشريع، أم يقبل بها كأحد المصادر، بعد أن يكتفي بتصنيف مصر كإحدى الدول الإسلامية، يلي ذلك السياسات الاجتماعية، وفي المقدمة منها الموقف من المرأة وحقوها، وإلى أية كفة سينحاز الرئيس المنتخب، وبعدها تأتي السياسات التنموية والاستراتيجيات الإقتصادية، وجميعها بحاجة، إن أريد لها تحقيق النجاح الحقيقي المتوخى لها، إلى وقفة جادة، قادرة على التمييز بين الالتزام العقيدي، والتطبيق الواقعي، من أجل الوصول إلى معادلة خلاقة بينهما. 7. تحقيق طموحات، ومعها آمال القوى الاجتماعية التي أطلقت عيار ثورة 25 يناير 2012 الأول، وشكلت العمود الفقري لجسدها، وخاصة في المراحل الأولى منها، والتي أدى إصرارها، إلى رحيل مبارك، بل وحتى وصولها إلى الانتخابات التي أوصلت مرسي إلى كرسي الرئاسة. كيف سيتعامل مرسي مع هذه الكتلة الاجتماعية المتنوعة، ذات البرامج السياسية المختلفة، إلى حد بعيد، في رؤواها ؟ وما هي الخطوات التي سيقدم عليها من أجل التأليف بين قلوبها أولاً، والمؤالفة بين قلوبها وقلوب الجماعة ثانياً؟. لقد ناشد مرسي المصريين أن يطووا صفحة الماضي، وأن "ينظروا نحو الأمام ولا يلتفتوا إلى الخلف”، ويأمل المواطن المصري أن تكون تلك الدعوة صادقة وثابتة، ويتطلع إلى رؤيتها مطبقة على أرض الواقع في الفترة القربية، وليس البعيدة، القادمة. تلك كانت قراءة داخلية لنتائج إنتخابات الرئاسة المصرية، وغداً ستكون قراءتها الخارجية.