رأيت شاباً مكافحاً.. يقدر وظيفته فهي مصدر رزقه.. يعاني الأمرين بين متطلبات الوظيفة والدوام المرهق وراتب بالكاد يغطي ديونه ونفقاته.. وإرضاء رئيسه الذي يظن أنه صاحب الحلال وأنه يرزق من يشاء.. والمصروفات الطارئة والتضخم الذي طال كل شيء إلا راتبه.. يبيع روحه للبنوك لكي يقتني أبسط سيارة مستعملة صناعة واقواقية يكفي أن توصله من نقطة أ إلى ب بسلام.. من سوق يمتلئ بسيارات فارهة مل أصحابها منها واستبدلوها بالأحدث والأفخم.والبنك سيظل رفيق عمره من تخرجه وحتى وفاته.. ولن يتوانى لحظة عن مطالبته وفضحه ومنعه من السفر وربما إهدار دمه إذا تخلف عن الدفع.. بالقانون الذي لا نعترض عليه طبعاً.. لكنه قانون لا يرى سرقات وعمولات وفضائح مالية كبيرة.. إنه قانون «يتشطر» على الصغار وله خطوط حمراء لا يجرؤ على الاقتراب منها. ورأيت شاباً آخر يأتي للدنيا وفي فمه ملعقة من ذهب.. أبوه أو عمه أو خاله مسؤول كبير.. وإن لم يورثه المنصب فهو على الأقل لن يتقاعد قبل أن يؤمن مستقبله.. تدرج وظيفي صاروخي تحت سمع وبصر القانون واللوائح.. راتب محترم وعلاوات.. والدورات السخية المتروكة للتقديرات والمجاملات والتي لا تجلب لنا خبرات وتطوير بقدر ما تملأ حسابات في البنوك.. ثم السكن والزوجة والسيارة.. المعاملات السالكة والحياة الترفة السهلة.. لا يبقى من هو مثله على درجته ما تبقى له من عمر في الوظيفة. لن يشقى في البحث عن شقة مناسبة كعش زوجية.. لن يقدم التماسات وطلبات وتعشمات تلقى في الأرفف المغبرة أو تنتهي في المهملات.. لن يدفع ضريبة وجوده في الحياة.. بل سيعيش في ترف لا يستحقه وسيتحمل أعباءه من هو أقل منه حظاً.. أتعرفون لماذا لا حل للفقر ولِم كثير من الناس متعسرون مع إن الخير كثير؟.. ولماذا سنظل نمد يدنا للفقراء بما لا يكفيهم ومع ذلك نمدها متفضلين؟.. لماذا هذه اليد لا تقربنا لله ولا تنفع الناس؟ لأننا باليد الأخرى نأخذ ما ليس حق لنا.. لأننا نرضى أن نعطي أرحامنا وأصدقاءنا مما لا نملك ومن مال عام، فيما هنالك طابور طويل ممن هو أولى وفق الأقدمية والقانون واللوائح.. وأكثر حاجة وفق شريعة الإنسانية.. والمشكلة أنك تخدع نفسك بأن هؤلاء راضون بأوضاعهم متنازلون عن حقوقهم وأنك يمكن أن تستتر وتحتمي بصلاتك في المسجد ودنانير الصدقات من دعاء المظلوم.. لقد رأيت في بلدي قيم العمل والإخلاص والإنتاجية باهتة مائعة، والكل يبحث عن «واسطة» ليصل إلى أي مكان.. ليس بالضرورة أن يصلوا لبر الأمان فبر الأمان محجوز مسبقاً.. لقد رأيت الحماس ينطفئ والطموح يموت غالباً لعدم توافر «الواسطة» ولأنك تضطهد لأنك بلا ظهر ولأن من يملك مفاتيح أحلامك يقيمك وفقاً لأصلك وقبيلتك وجماعتك ومعارفك لذلك هو ببساطة غير أمين على هذه الأحلام.