نكمل في الجزء الثالث من المقال حديثنا عن احتمالات ضرب الملف النووي الإيراني ونتائجها على المنطقة، وفي ضوء ما سبق، وإذا ما أضفنا له عاملاً إيرانياً واحداً آخر هو أن أية ضربة عسكرية توجهها إسرائيل منفردة أو بدعم مباشر أو غير مباشر من قوة غربية، ستواجه، كما تحذر منه الكثير من المصادر الغربية ذاتها، من مقاومة داخلية إيرانية تجعل من تحقيق الهدف من تلك الضربة، مهمة تكاد أن تكون شبه مستحيلة من جانب، وستقوي من صلب النظام الإيراني، الذي سوف يستغل هذا الهجوم الخارجي، لتقليص الخلافات الداخلية التي يعاني منها حالياً، ويدعو لوحدة وطنية في وجه عدوان خارجي، وهو أمر تتقبله القومية الفارسية بالكثير من الإيجابية من جانب آخر. محصلة ذلك مد النظام الإيراني، بالمقويات التي هو في أمس الحاجة لها من أجل الشروع في تشكيل جبهة داخلية قوية تصعب من مهمة من تخول له نفسه الاستمرار في العدوان الذي يتطلبه ضرب المشروع النووي الإيراني. هذا سوف يساعد طهران، أيضاً، على التخلص من بعض الأعداء الداخليين، الذين تصعب مواجهتهم في ظروف لا تكون فيها طهران مهددة بعدوان من الخارج.من هنا، يصعب القول بإمكانية تعرض إيران في المستقبل المنظور، لضربة عسكرية مباشرة تهدف إلى إجهاض مشروعها النووي، دون أن يعني ذلك توقف المناكفات الإعلامية، ولا الكف عن الضغوط السياسية والاقتصادية من أجل تليين الموقف الإيراني في نطاق ذلك المشروع من جانب، والوصول معه إلى بعض الصفقات السياسية والاقتصادية ذات العلاقة بمنطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى. فهناك من الملفات السياسية الشرق أوسطية التي لا يمكن فتحها، أو الحديث عن مخططات لها، بعيداً عن مشاركة إيرانية مباشرة، وعلى الصعيد الاقتصادي، تمثل إيران أحد العوامل المؤثرة على الجبهة النفطية، التي من الخطأ، وليس من مصلحة الاحتكارات الغربية، شطبها من أية معادلة مقبلة لترتيب سوق تلك السلعة الاستراتيجية على المستوى الدولي. من هنا، فمن المتوقع أن تأخذ النتائج الناجمة، من احتمال استمرار "الغزل العنيف” الممزوج ببعض رسائل الغضب والتهديد بين العواصم الغربية، وفي المقدمة منها واشنطن من طرف، وطهران من طرف آخر المسارات التالية:1- إبراز الملف النووي الإيراني، والخطر الذي يمثله على أمن دول المنطقة، على أنه القضية المرحلية الأكثر أهمية، ومن ثم الضغط على الدول العربية من أجل تأجيل قضاياها الأخرى، وفي المقدمة منها فلسطين، ووضعها في الدرجات المتأخرة من سلم الأولويات، بحيث، تحت إطار هذا الإبراز، تتراجع الأولويات العربية الأخرى، وتنصب الجهود على معالجة موضوع "الملف النووي الإيراني”، لكونه، دون سواه كما تريد الدول الغربية أن تراه، الخطر الأهم الذي يهدد أمن واستقرار المنطقة، والذي يحول، بالتالي، دون تنفيذ أي مشروع إقليمي يعالج مشكلاتها الآنية أو حتى المستقبلية. يضمن مثل هذا التوجه، فيما لو لقي حظه من النجاح، تحقيق الهدف الذي تتوخاه له الدوائر الغربية، وهو جر المنطقة برمتها نحو طريق واحد يهدف إلى تركيز جهودها على "الملف النووي الإيراني”، وتجميد الملفات الساخنة الأخرى لأجل غير مسمى.2- الضغط على تل أبيب، بعد أن ضمنت تراجع أهمية القضية الفلسطينية، كي توقف استعراض العضلات، الذي لم يعد مطلوباً على الصعيد العملي، ولا المقبول على الصعيد السياسي، ولا المجدي من الناحية العسكرية، والتوقف عن التلويح بعزمها على "معاقبة” طهران، كي تعيد النظر في مشروعها النووي. ليس فقط لكون تل أبيب غير مؤهلة لتنفيذ وعودها وتهديداتها كما أوضحنا، بل لكون إيران غير قابلة للإنصات لأية دعوة تنادي للسير في هذا الاتجاه. وبالتالي فمن المتوقع أن يخفت صوت تل أبيب عند الحديث عن الملف النووي الإيراني في أي من المحافل الدولية، باستثناء بعض الاحتجاجات الخجولة التي تحفظ ماء وجهها على الصعيد الداخلي، وتحافظ على الدور الذي تصر تل أبيب على الاستمرار في ممارسته على المستوى الإقليمي. محصلة ذلك، توفير قوى أجهزة الأمن الإسرائيلية للاستفراد بالمقاومة الفلسطينية، والتصدي لها، في ظل صمت إعلامي من جانب، وتراجع عربي من جانب آخر. ومن ثم فمن غير المستبعد أن نشاهد تصعيداً في المواجهة بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية في الضفة، وضد "حماس” في غزة. 3- استمرار ابتزاز دول المنطقة العربية عن طريق الفزاعة النووية الإيرانية، من أجل انتزاع الكثير من المطالب غير المشروعة التي لا تتوقف عنها الدوائر الغربية وفي المقدمة منها واشنطن، التي لن تتورع من أن تصعد من ضغوطاتها على الدول العربية النفطية، كي تضاعف من مساهماتها في انتشال الاقتصاد الغربي من أزمته البنيوية التي تتفاقم، وتنذر بكارثة عالمية، يصعب التكهن بنتائجها من جانب، وكي تفتح أسواقها أمام المزيد من أشكال النهب، على الجبهتين النفطية والاستثمارية من جانب آخر، بما يضمن حصول الغرب على الكميات التي يحتاجها من مصادر الطاقة وبالأسعار المريحة التي لا ترهق اقتصادياته من جانب، وتضمن إعادة ضخ الأموال المتحصلة من بيع النفط العربي إلى الأسواق الأوروبية، في شكل استثمارات، من غير المستبعد أن يكون البعض منها غير مجد من الناحية المالية، من جانب آخر. لذا ينبغي التهيؤ إلى سيناريوهات تتعلق بالسوق النفطية ستكون ساخنة. 4- دعوة دول المنطقة بما فيها تركيا، إلى القبول مع الحقيقة القائمة وهي امتلاك طهران للمفاعلات النووية، التي تصر هي على أنها للأغراض السلمية، والتعايش معها على هذا الأساس، مقابل ذلك من غير المستبعد نيل تلك الدول بعض الحقوق في البدء بمشروعاتها النووية الخاصة بها. وربما تكون البداية مع تلك الدول الصغيرة ذات الإمكانات المالية الضخمة، والتي بوسعها أن تتحمل أكلاف مشروعات صناعة نووية محدودة الأفق من جانب، ولا تشكل، بفضل قدراتها الذاتية الصغيرة، أي شكل من أشكال التهديد لأي مشروع دولي يمس الخارطة السياسية للمنطقة. لذا من غير المستبعد أن نسمع عن بعض المشروعات النووية العربية في الفترة القادمة.كل تلك النتائج المتوقعة ترفع علامة استفهام كبيرة أمام طرفي المعادلة في منطقة الشرق الأوسط، وهما إيران والدول العربية، وعلى وجه الخصوص تلك التي تمثل ثقلاً لا يمكن تجاوزه في معادلة التسويات الشرق أوسطية مثل السعودية ومصر، تقول: لماذ لا يجلس هذان الطرفان "العرب وايران” على مائدة مفاوضات مباشرة ويضعان فوقها كل المشكلات العالقة بينهما، والعمل بجد من أجل تقليص عناصر الخلاف وتعزيز عوامل الوفاق؟ حينها سيجد الطرفان الكثير من عوامل التعاون التي بحاجة إلى التغذية، والقليل من عناصر الخلاف التي يمكن الحد منها أو الوصول إلى حلول توفيقية بشأنها. ومحصلة ذلك تجيير نتائج احتمالات "ضرب المفاعل النووي الإيراني” المشار لها أعلاه لصالح الطرفين العربي والإيراني على حد سواء، وعلى قدم المساواة، ودون التضحية بمصالح أي من الطرفين، وخاصة العربية التي ليس هناك ما يدعو للتفريط فيها.